فصل: بَابُ مَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.بَابُ مَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ:

قَالَ: (وَإِذَا أَكَلَ الصَّائِمُ أَوْ شَرِبَ أَوْ جَامَعَ نَهَارًا نَاسِيًا لَمْ يُفْطِرْ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يُفْطِرَ، وَهُوَ قول مَالِكٍ لِوُجُودِ مَا يُضَادُّ الصَّوْمَ فَصَارَ كَالْكَلَامِ نَاسِيًا فِي الصَّلَاةِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلَّذِي أَكَلَ وَشَرِبَ نَاسِيًا «تِمَّ عَلَى صَوْمِكَ فَإِنَّمَا أَطْعَمَكَ اللَّهُ وَسَقَاكَ» وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ثَبَتَ فِي الْوِقَاعِ لِلِاسْتِوَاءِ فِي الرُّكْنِيَّةِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ هَيْئَةَ الصَّلَاةِ مُذَكِّرَةٌ فَلَا يَغْلِبُ النِّسْيَانُ وَلَا مُذَكِّرَ فِي الصَّوْمِ فَيَغْلِبُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يُفَضِّلْ وَلَوْ كَانَ مُخْطِئًا أَوْ مُكْرَهًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُهُ بِالنَّاسِي، وَلَنَا أَنَّهُ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ وَعُذْرُ النِّسْيَانِ غَالِبٌ وَلِأَنَّ النِّسْيَانَ مِنْ قِبَلِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ وَالْإِكْرَاهَ مِنْ قِبَلِ غَيْرِهِ فَيَفْتَرِقَانِ كَالْمُقَيَّدِ وَالْمَرِيضِ فِي قَضَاءِ الصَّلَاةِ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ مَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ).
قولهُ: (نَاسِيًا لَمْ يُفْطِرْ) إلَّا فِيمَا إذَا أَكَلَ نَاسِيًا فَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ صَائِمٌ فَلَمْ يَتَذَكَّرْ وَاسْتَمَرَّ ثُمَّ تَذَكَّرَ، فَإِنَّهُ يُفْطِرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ أُخْبِرَ بِأَنَّ الْأَكْلَ حَرَامٌ عَلَيْهِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ فِي الدِّيَانَاتِ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَلْتَفِتَ إلَى تَأَمُّلِ الْحَالِ، وَقَالَ زُفَرُ وَالْحَسَنُ: لَا يُفْطِرُ لِأَنَّهُ نَاسٍ.
قولهُ: (فَصَارَ كَالْكَلَامِ نَاسِيًا فِي الصَّلَاةِ) وَكَتَرْكِ النِّيَّةِ فِيهِ وَكَالْجِمَاعِ فِي الْإِحْرَامِ وَالِاعْتِكَافِ نَاسِيًا فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَفْسُدُ مَعَ النِّسْيَانِ.
قولهُ: (وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَخْ) فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ» وَحَمَلَهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّوْمِ اللُّغَوِيِّ فَيَكُونُ أَمْرًا بِالْإِمْسَاكِ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ كَالْحَائِضِ إذَا طَهُرَتْ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ، وَنَحْوُهُ مَدْفُوعٌ أَوَّلًا بِأَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْمَفْهُومِ الشَّرْعِيِّ حَيْثُ أَمْكَنَ فِي لَفْظِ الشَّارِعِ وَاجِبٌ. فَإِنْ قِيلَ: يَجِبُ ذَلِكَ لِلدَّلِيلِ عَلَى الْبُطْلَانِ وَهُوَ الْقِيَاسُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. قُلْنَا: حَقِيقَةُ النَّصِّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ لَوْ تَمَّ فَكَيْفَ وَهُوَ لَا يَتِمُّ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ الْبُطْلَانِ مَعَ النِّسْيَانِ فِيمَا لَهُ هَيْئَةٌ مُذَكِّرَةٌ الْبُطْلَانَ مَعَهُ فِيمَا لَا مُذَكِّرَ فِيهِ، وَهَيْئَةُ الْإِحْرَامِ وَالِاعْتِكَافِ وَالصَّلَاةِ مُذَكِّرَةٌ، فَإِنَّهَا تُخَالِفُ الْهَيْئَةَ الْعَادِيَّةَ وَلَا كَذَلِكَ الصَّوْمُ، وَالنِّسْيَانُ غَالِبٌ لِلْإِنْسَانِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ عُذْرِهِ بِالنِّسْيَانِ مَعَ تِلْكَ عَدَمُ عُذْرِهِ بِهِ مَعَ الصَّوْمِ، وَثَانِيًا: بِأَنَّ نَفْسَ اللَّفْظِ يَدْفَعُهُ وَهُوَ قوله: «فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ» وَصَوْمُهُ إنَّمَا كَانَ الشَّرْعِيَّ، فَإِتْمَامُ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالشَّرْعِيِّ. وَثَالِثًا: بِأَنَّ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ وَسُنَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنِّي كُنْتُ صَائِمًا فَأَكَلْتُ وَشَرِبْتُ نَاسِيًا فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَتِمَّ صَوْمَكَ فَإِنَّ اللَّهَ أَطْعَمَكَ وَسَقَاكَ وَفِي لَفْظٍ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْكَ» وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ بِلَفْظِ الْجَمَاعَةِ وَزَادَ فِيه: «وَلَا تُفْطِرْ».
وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ» وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ: تَفَرَّدَ بِهِ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، وَكُلُّهُمْ ثِقَاتٌ.
قولهُ: (لِلِاسْتِوَاءِ فِي الرُّكْنِيَّةِ) الرُّكْنُ وَاحِدٌ وَهُوَ الْكَفُّ عَنْ كُلٍّ مِنْهَا، فَتَسَاوَتْ كُلُّهَا فِي أَنَّهَا مُتَعَلِّقُ الرُّكْنِ لَا يَفْضُلُ وَاحِدٌ مِنْهَا عَلَى أَخَوَيْهِ بِشَيْءٍ فِي ذَلِكَ، فَإِذَا ثَبَتَ فِي فَوَاتِ الْكَفِّ عَنْ بَعْضِهَا نَاسِيًا عُذْرُهُ بِالنِّسْيَانِ وَإِبْقَاءُ صَوْمِهِ كَانَ ثَابِتًا أَيْضًا فِي فَوَاتِ الْكَفِّ نَاسِيًا عَنْ أَخَوَيْهِ. يَحْكُمُ بِذَلِكَ كُلُّ مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ الِاسْتِوَاءَ، ثُمَّ عَلِمَ ذَلِكَ الثُّبُوتَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، هَذَا وَمَنْ رَأَى صَائِمًا يَأْكُلُ نَاسِيًا إنْ رَأَى قُوَّةً تُمْكِنُهُ أَنْ يُتِمَّ صَوْمَهُ بِلَا ضَعْفٍ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ لَا يُخْبِرَهُ وَإِنْ كَانَ بِحَالٍ يَضْعُفُ بِالصَّوْمِ، وَلَوْ أَكَلَ يَتَقَوَّى عَلَى سَائِرِ الطَّاعَاتِ يَسَعُهُ أَنْ لَا يُخْبِرَهُ، وَلَوْ بَدَأَ بِالْجِمَاعِ نَاسِيًا فَتَذَكَّرَ إنْ نَزَعَ مِنْ سَاعَتِهِ لَمْ يُفْطِرْ وَإِنْ دَامَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى أَنْزَلَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، ثُمَّ قِيلَ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَقِيلَ: هَذَا إذَا لَمْ يُحَرِّكْ نَفْسَهُ بَعْدَ التَّذَكُّرِ حَتَّى أَنْزَلَ، فَإِنْ حَرَّكَ نَفْسَهُ بَعْدَهُ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، كَمَا لَوْ نَزَعَ ثُمَّ أَدْخَلَ، وَلَوْ جَامَعَ عَامِدًا قَبْلَ الْفَجْرِ وَطَلَعَ وَجَبَ النَّزْعُ فِي الْحَالِ، فَإِنْ حَرَّكَ نَفْسَهُ بَعْدَهُ فَهُوَ عَلَى هَذَا نَظِيرُهُ مَا لَوْ أَوْلَجَ ثُمَّ قَالَ لَهَا: إنْ جَامَعْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ حُرَّةٌ إنْ نَزَعَ أَوْ لَمْ يَنْزِعْ وَلَمْ يَتَحَرَّكْ حَتَّى أَنْزَلَ لَا تَطْلُقُ وَلَا تَعْتِقُ، وَإِنْ حَرَّكَ نَفْسَهُ طَلُقَتْ وَعَتَقَتْ وَيَصِيرُ مُرَاجِعًا بِالْحَرَكَةِ الثَّانِيَةِ، وَيَجِبُ لِلْأَمَةِ الْعُقْرُ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا.
قولهُ: (فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُهُ بِالنَّاسِي) يُجَامِعْ أَنَّهُ غَيْرُ قَاصِدٍ لِلْجِنَايَةِ فَيُعْذَرُ بَلْ هُوَ أَوْلَى لِأَنَّهُ غَيْرُ قَاصِدٍ لِلشُّرْبِ وَلَا لِلْجِنَايَةِ، وَالنَّاسِي قَاصِدٌ لِلشُّرْبِ غَيْرُ قَاصِدٍ لِلْجِنَايَةِ، وَلِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» لِلْحَدِيثِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ تَخْرِيجُهُ وَالْجَوَابُ عَنْهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ إلْحَاقِهِ فَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقوله: (وَلَنَا أَنَّهُ) أَيْ عُذْرُ الْخَطَأِ وَالْإِكْرَاهِ (لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ) أَمَّا الْإِكْرَاهُ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا الْخَطَأُ إذْ مَعَ التَّذَكُّرِ وَعَدَمِ قَصْدِ الْجِنَايَةِ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْإِفْسَادِ قَائِمٌ بِقَدْرِ الْوُسْعِ، وَقَلَّمَا يَحْصُلُ الْفَسَادُ مَعَ ذَلِكَ بِخِلَافِ حَالَةِ عَدَمِ التَّذَكُّرِ مَعَ قِيَامِ مُطَالَبَةِ الطَّبْعِ بِالْمُفْطِرَاتِ فَإِنَّهُ يَكْثُرُ مَعَهُ الْإِفْسَادُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ عُذِرَ فِيمَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ مِثْلُهُ فِيمَا لَا يَكْثُرُ، وَلِأَنَّ الْوُصُولَ إلَى الْجَوْفِ مَعَ التَّذَكُّرِ فِي الْخَطَأِ لَيْسَ إلَّا لِتَقْصِيرِهِ فِي الِاحْتِرَازِ فَيُنَاسِبُ الْفَسَادَ إذْ فِيهِ نَوْعُ إضَافَةٍ إلَيْهِ بِخِلَافِ النِّسْيَانِ، فَإِنَّهُ بِرُمَّتِهِ مُنْدَفِعٌ إلَيْهِ مِنْ قِبَلِ مَنْ الْإِمْسَاكُ حَقُّهُ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ، فَكَانَ صَاحِبُ الْحَقِّ هُوَ الْمُفَوِّتُ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَى الْخُلُوصِ، وَلِذَا أَضَافَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَيْهِ تَعَالَى حَيْثُ قال: «أَتِمَّ عَلَى صَوْمِكَ فَإِنَّمَا أَطْعَمَكَ اللَّهُ وَسَقَاكَ» وَحَقِيقَةُ هَذَا التَّعْلِيلِ يَقْطَعُ نِسْبَتَهُ إلَى الْمُكَلَّفِ فَلَا يَكُونُ مُلْزِمًا عَلَيْهِ شَيْئًا إذْ لَمْ يَقَعْ مِنْ جِهَتِهِ تَفْوِيتٌ، فَظَهَرَ ظُهُورًا سَاطِعًا عَدَمُ لُزُومِ اعْتِبَارِ الصَّوْمِ قَائِمًا مَعَ الْخَطَأِ وَالْإِكْرَاهِ لِاعْتِبَارِهِ قَائِمًا مَعَ النِّسْيَانِ، وَصَارَ مَعَ النَّاسِي كَالْمُقَيَّدِ مَعَ الْمَرِيضِ فِي قَضَاءِ الصَّلَاةِ الَّتِي صَلَّيَاهَا قَاعِدَيْنِ حَيْثُ يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى الْمُقَيَّدِ لَا الْمَرِيضِ، وَحُكْمُ النَّائِمِ إذَا صُبَّ فِي حَلْقِهِ مَا يُفْطِرُ حُكْمُ الْمُكْرَهِ فَيُفْطِرُ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ كَانَ يَقول أَوَّلًا: فِي الْمُكْرَهِ عَلَى الْجِمَاعِ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِانْتِشَارِ الْآلَةِ وَذَلِكَ إمَارَةُ الِاخْتِيَارِ، ثُمَّ رَجَعَ.
وَقَالَ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قولهُمَا لِأَنَّ فَسَادَ الصَّوْمِ يَتَحَقَّقُ بِالْإِيلَاجِ وَهُوَ مُكْرَهٌ فِيهِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ انْتَشَرَ آلَتُهُ يُجَامِعُ.

متن الهداية:
قَالَ: (فَإِنْ نَامَ فَاحْتَلَمَ لَمْ يُفْطِرْ) لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصِّيَامَ الْقَيْءُ وَالْحِجَامَةُ وَالِاحْتِلَامُ»، وَلِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ صُورَةُ الْجِمَاعِ وَلَا مَعْنَاهُ وَهُوَ الْإِنْزَالُ عَنْ شَهْوَةٍ بِالْمُبَاشَرَةِ (وَكَذَا إذَا نَظَرَ إلَى امْرَأَةٍ فَأَمْنَى) لِمَا بَيَّنَّا فَصَارَ كَالْمُتَفَكِّرِ إذَا أَمْنَى وَكَالْمُسْتَمْنِي بِالْكَفِّ عَلَى مَا قَالُوا (وَلَوْ ادَّهَنَ لَمْ يُفْطِرْ) لِعَدَمِ الْمُنَافِي (وَكَذَا إذَا احْتَجَمَ) لِهَذَا وَلِمَا رَوَيْنَا (وَلَوْ اكْتَحَلَ لَمْ يُفْطِرْ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدِّمَاغِ مَنْفَذٌ وَالدَّمْعُ يَتَرَشَّحُ كَالْعَرَقِ وَالدَّاخِلُ مِنْ الْمَسَامِّ لَا يُنَافِي كَمَا لَوْ اغْتَسَلَ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ (وَلَوْ قَبَّلَ لَا يَفْسُدُ صَوْمٌ) يُرِيدُ بِهِ إذَا لَمْ يُنْزِلْ لِعَدَمِ الْمُنَافِي صُورَةً وَمَعْنًى بِخِلَافِ الرَّجْعَةِ وَالْمُصَاهَرَةِ لِأَنَّ الْحُكْمَ هُنَاكَ أُدِيرَ عَلَى السَّبَبِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. (وَإِنْ أَنْزَلَ بِقُبْلَةٍ أَوْ لَمْسٍ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ) لِوُجُودِ مَعْنَى الْجِمَاعِ وَوُجُودِ الْمُنَافِي صُورَةً أَوْ مَعْنًى يَكْفِي لِإِيجَابِ الْقَضَاءِ احْتِيَاطًا، أَمَّا الْكَفَّارَةُ فَتَفْتَقِرُ إلَى كَمَالِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ (وَلَا بَأْسَ بِالْقُبْلَةِ إذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ) أَيْ الْجِمَاعَ أَوْ الْإِنْزَالَ (وَيُكْرَهُ إذَا لَمْ يَأْمَنْ) لِأَنَّ عَيْنَهُ لَيْسَ بِمُفْطِرٍ وَرُبَّمَا يَصِيرُ فِطْرًا بِعَاقِبَتِهِ فَإِنْ أَمِنَ يُعْتَبَرُ عَيْنُهُ وَأُبِيحَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْمَنْ تُعْتَبَرُ عَاقِبَتُهُ وَكُرِهَ لَهُ، وَالشَّافِعِيُّ أَطْلَقَ فِيهِ فِي الْحَالَيْنِ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا وَالْمُبَاشَرَةُ الْفَاحِشَةُ مِثْلُ التَّقْبِيلِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ كَرِهَ الْمُبَاشَرَةَ الْفَاحِشَةَ لِأَنَّهَا قَلَّمَا تَخْلُو عَنْ الْفِتْنَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصِّيَامَ») رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ «ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ: الْحِجَامَةُ، وَالْقَيْءُ، وَالِاحْتِلَامُ» وَفِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَذَكَرَهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَخِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهُوَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ مُسْنَدًا، وَضَعَّفَهُ أَيْضًا أَحْمَدُ كَابْنِ مَعِينٍ لِسُوءِ حِفْظِهِ، وَإِنْ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِطَرِيقٍ آخَرَ فِيهِ هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَهِشَامٌ هَذَا ضَعَّفَهُ النَّسَائِيّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ وَلَيَّنَهُ ابْنُ عَدِيٍّ وَقَالَ: يُكْتَبُ حَدِيثُهُ، وَقَالَ عَبْدُ الْحَقِّ: يُكْتَبُ حَدِيثُهُ، وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، لَكِنْ قَدْ احْتَجَّ بِهِ مُسْلِمٌ، وَاسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ. وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ: الْقَيْءُ، وَالْحِجَامَةُ، وَالِاحْتِلَامُ». قَالَ: وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِهَا إسْنَادًا وَأَصَحِّهَا.اهـ. وَفِيهِ سُلَيْمَانُ بْنُ حِبَّانَ قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: صَدُوقٌ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ.
وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ، وَقَالَ: لَا يُرْوَى عَنْ ثَوْبَانَ إلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، تَقَرَّدَ بِهِ ابْنُ وَهْبٍ. فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَجِبُ أَنْ يَرْتَقِيَ إلَى دَرَجَةِ الْحَسَنِ لِتَعَدُّدِ طُرُقِهِ، وَضَعْفُ رُوَاتِهِ إنَّمَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْحِفْظِ لَا الْعَدَالَةِ فَالتَّضَافُرُ دَلِيلُ الْإِجَادَةِ فِي خُصُوصِهِ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْقَيْءِ مَا ذَرَعَ الصَّائِمَ عَلَى مَا سَيَظْهَرُ.
قولهُ: (وَكَذَا إذَا نَظَرَ إلَى امْرَأَةً) بِشَهْوَةٍ إلَى وَجْهِهَا أَوْ فَرْجِهَا كَرَّرَ النَّظَرَ أَوْ لَا لَا يُفْطِرُ إذَا أَنْزَلَ (لِمَا بَيَّنَّا) أَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ صُورَةُ الْجِمَاعِ وَلَا مَعْنَاهُ وَهُوَ لِلْإِنْزَالِ عَنْ مُبَاشَرَةٍ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ فِي قولهِ: إذَا كَرَّرَهُ فَأَنْزَلَ أَفْطَرَ. وَمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّمَا لَكَ الْأُولَى» وَالْمُرَادُ بِهِ الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ الْحَظْرِ الْإِفْطَارُ بَلْ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِفَوَاتِ الرُّكْنِ، وَهُوَ بِالْجِمَاعِ لَا بِكُلِّ إنْزَالٍ لِعَدَمِ الْفِطْرِ فِيمَا إذَا أَنْزَلَ بِالتَّفَكُّرِ فِي جَمَالِ امْرَأَةٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُفْطِرْ. وَغَايَةُ مَا يَجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ مَعْنَى الْجِمَاعِ كَالْجِمَاعِ. وَهُوَ أَيْضًا مُنْتَفٍ لِأَنَّهُ الْإِنْزَالُ عَنْ مُبَاشَرَةٍ لَا مُطْلَقًا لِمَا ذَكَرْنَا.
قولهُ: (عَلَى مَا قَالُوا) عَادَتُهُ فِي مِثْلِهِ إفَادَةُ الضَّعْفِ مَعَ الْخِلَافِ. وَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ عَلَى الْإِفْطَارِ.
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ: أَنَّهُ الْمُخْتَارُ كَأَنَّهُ اُعْتُبِرَتْ الْمُبَاشَرَةُ الْمَأْخُوذَةُ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهَا مُبَاشَرَةَ الْغَيْرِ أَوَّلًا بِأَنْ يُرَادَ مُبَاشَرَةٌ هِيَ سَبَبُ الْإِنْزَالِ سَوَاءٌ كَانَ مَا بُوشِرَ مِمَّا يُشْتَهَى عَادَةً أَوْ لَا، وَلِهَذَا أَفْطَرَ بِالْإِنْزَالِ فِي فَرْجِ الْبَهِيمَةِ وَالْمَيْتَةِ وَلَيْسَ مِمَّا يُشْتَهَى عَادَةً، هَذَا وَلَا يَحِلُّ الِاسْتِمْنَاءُ بِالْكَفِّ ذَكَرَ الْمَشَايِخُ فِيهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال: «نَاكِحُ الْيَدِ مَلْعُونٌ، فَإِنْ غَلَبَتْهُ الشَّهْوَةُ فَفَعَلَ إرَادَةَ تَسْكِينِهَا بِهِ فَالرَّجَاءُ أَنْ لَا يُعَاقَبَ».
قولهُ: (لِهَذَا) أَيْ عَدَمِ الْمُنَافِي (وَلِمَا رَوَيْنَا) مِنْ حَدِيثِ «ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ» وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ أَنَّ الْحِجَامَةَ تُفَطِّرُ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَيْنَاهُ، وَبِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ لِأَنَسٍ: أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: لَا إلَّا مِنْ أَجْلِ الضَّعْفِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ أَنَسٌ: «أَوَّلُ مَا كُرِهَتْ الْحِجَامَةُ لِلصَّائِمِ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ فَمَرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَفْطَرَ هَذَا ثُمَّ رَخَّصَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْحِجَامَةِ بَعْدُ لِلصَّائِمِ»، وَكَانَ أَنَسٌ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ: كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ وَلَا أَعْلَمُ لَهُ عِلَّةً.
قولهُ: (وَلَوْ اكْتَحَلَ لَمْ يُفْطِرْ) سَوَاءٌ وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ أَوْ لَا لِأَنَّ الْمَوْجُودَ فِي حَلْقِهِ أَثَرُهُ دَاخِلًا مِنْ الْمَسَامِّ وَالْمُفْطِرُ الدَّاخِلُ مِنْ الْمَنَافِذِ كَالْمُدْخَلِ وَالْمُخْرَجِ لَا مِنْ الْمَسَامِّ الَّذِي هُوَ خَلَلُ الْبَدَنِ لِلِاتِّفَاقِ فِيمَنْ شَرَعَ فِي الْمَاءِ يَجِدُ بَرْدَهُ فِي بَطْنِهِ وَلَا يُفْطِرُ. وَإِنَّمَا كَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ ذَلِكَ أَعْنِي الدُّخُولَ فِي الْمَاءِ وَالتَّلَفُّفَ بِالثَّوْبِ الْمَبْلُولِ لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ الضَّجَرِ فِي إقَامَةِ الْعِبَادَةِ لَا لِأَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ الْإِفْطَارِ وَلَوْ بَزَقَ فَوَجَدَ لَوْنَ الدَّمِ فِيهِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ. وَقِيلَ: يُفْطِرُ لِتَحَقُّقِ وُصُولِ دَمٍ إلَى بَطْنٍ مِنْ بُطُونِهِ، وَهُوَ قول مَالِكٍ وَسَنَذْكُرُ الْخِلَافَ فِيهَا.
قولهُ: (بِخِلَافِ الرَّجْعَةِ إلَخْ) أَيْ لَوْ قَبَّلَ الْمُطَلَّقَةَ الرَّجْعِيَّةَ صَارَ مُرَاجِعًا وَبِالْقُبْلَةِ أَيْضًا مَعَ شَهْوَةٍ يَنْتَشِرُ لَهَا الذَّكَرُ تَثْبُتُ حُرْمَةُ أُمَّهَاتِ الْمُقَبَّلَةِ وَبَنَاتِهَا (لِأَنَّ الْحُكْمَ) وَهُوَ ثُبُوتُ الرَّجْعَةِ وَحُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ (أَدْبَرَ عَلَى السَّبَبِ) لِأَنَّهُ يُؤْخَذُ فِيهِمَا بِالِاحْتِيَاطِ فَتَعَدَّى مِنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الشُّبْهَةِ فَأُقِيمَ السَّبَبُ فِيهِ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ أَعْنِي الْوَطْءَ.
قولهُ: (أَمَّا الْكَفَّارَةُ فَتَفْتَقِرُ إلَى كَمَالِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ) فَكَانَتْ عُقُوبَةً وَهُوَ أَعْلَى عُقُوبَةٍ لِلْإِفْطَارِ فِي الدُّنْيَا فَيَتَوَقَّفُ لُزُومُهَا عَلَى كَمَالِ الْجِنَايَةِ، وَلَوْ قَالَ بِالْوَاوِ كَانَا تَعْلِيلَيْنِ وَهُوَ أَحْسَنُ وَيَكُونُ نَفْسُ قولهِ تَفْتَقِرُ إلَى كَمَالِ الْجِنَايَةِ تَعْلِيلًا أَيْ لَا تَجِبُ لِأَنَّهَا تَفْتَقِرُ إلَى كَمَالِ الْجِنَايَةِ إذْ كَانَتْ أَعْلَى الْعُقُوبَاتِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَلِأَنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَفِي كَوْنِ ذَلِكَ مُفَطِّرًا شُبْهَةٌ حَيْثُ كَانَ مَعْنَى الْجِمَاعِ لَا صُورَتُهُ فَلَا تَجِبُ.
قولهُ: (لِأَنَّ عَيْنَهُ) ذَكَرَ عَلَى مَعْنَى التَّقْبِيلِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: كَانَ يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ» وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْه: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالْمَسُّ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا كَالتَّقْبِيلِ قوله: (مِثْلُ التَّقْبِيلِ) وَرَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ فَرَخَّصَ لَهُ. وَأَتَاهُ آخَرُ فَنَهَاهُ. فَإِذَا الَّذِي رَخَّصَ لَهُ شَيْخٌ، وَاَلَّذِي نَهَاهُ شَابٌّ» وَهَذَا يُفِيدُ التَّفْصِيلَ الَّذِي اعْتَبَرْنَاهُ (وَالْمُبَاشَرَةُ كَالتَّقْبِيلِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فِي الْمُبَاشَرَةِ الْفَاحِشَةِ) وَهِيَ تَجَرُّدُهُمَا مُتَلَازِقَيْ الْبَطْنَيْنِ، وَهَذَا أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الْمُبَاشَرَةِ وَهُوَ الْمُفَادُ فِي الْحَدِيثِ، فَجَعْلُ الْحَدِيثِ دَلِيلًا عَلَى مُحَمَّدٍ مَحَلُّ نَظَرٍ، إذْ لَا عُمُومَ لِلْفِعْلِ الْمُثْبِتِ فِي أَقْسَامِهِ بَلْ وَلَا فِي الزَّمَانِ وَفَهْمُهُ فِيهِ مِنْ إدْخَالِ الرَّاوِي لَفْظَ كَانَ عَلَى الْمُضَارِعِ. وَقول مُحَمَّدٍ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
قولهُ: (لِأَنَّهَا قَلَّمَا تَخْلُو عَنْ الْفِتْنَةِ) قُلْنَا: الْكَلَامُ فِيمَا إذَا كَانَ بِحَالٍ يَأْمَنُ. فَإِنْ خَافَ قُلْنَا بِالْكَرَاهَةِ وَالْأَوْجَهُ الْكَرَاهَةُ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ سَبَبًا غَالِبًا تَنْزِلُ سَبَبًا فَأَقَلُّ الْأُمُورِ لُزُومُ الْكَرَاهَةِ مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةِ تَحَقُّقِ الْخَوْفِ بِالْفِعْلِ. كَمَا هُوَ قَوَاعِدُ الشَّرْعِ.

متن الهداية:
(وَلَوْ دَخَلَ حَلْقَهُ ذُبَابٌ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِصَوْمِهِ لَمْ يُفْطِرْ) وَفِي الْقِيَاسِ يَفْسُدُ صَوْمُهُ لِوُصُولِ الْمُفْطِرِ إلَى جَوْفِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَغَذَّى بِهِ كَالتُّرَابِ وَالْحَصَاةِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَا يُسْتَطَاعُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَأَشْبَهَ الْغُبَارَ وَالدُّخَانَ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَطَرِ وَالثَّلْجِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَفْسُدُ لِإِمْكَانِ الِامْتِنَاعِ عَنْهُ إذَا آوَاهُ خَيْمَةٌ أَوْ سَقْفٌ (وَلَوْ أَكَلَ لَحْمًا بَيْنَ أَسْنَانِهِ فَإِنْ كَانَ قَلِيلًا لَمْ يُفْطِرْ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا يُفْطِرُ) وَقَالَ زُفَرُ: يُفْطِرُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ الْفَمَ لَهُ حُكْمُ الظَّاهِرِ حَتَّى لَا يَفْسُدَ صَوْمُهُ بِالْمَضْمَضَةِ. وَلَنَا أَنَّ الْقَلِيلَ تَابِعٌ لِأَسْنَانِهِ بِمَنْزِلَةِ رِيقِهِ بِخِلَافِ الْكَثِيرِ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى فِيمَا بَيْنَ الْأَسْنَانِ، وَالْفَاصِلُ مِقْدَارُ الْحِمَّصَةِ وَمَا دُونَهَا قَلِيلٌ (وَإِنْ أَخْرَجَهُ وَأَخَذَهُ بِيَدِهِ ثُمَّ أَكَلَهُ يَنْبَغِي أَنْ يَفْسُدَ صَوْمُهُ) لِمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ: أَنَّ الصَّائِمَ إذَا ابْتَلَعَ سِمْسِمَةً بَيْنَ أَسْنَانِهِ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ وَلَوْ أَكَلَهَا ابْتِدَاءً يَفْسُدُ صَوْمُهُ وَلَوْ مَضَغَهَا لَا يَفْسُدُ لِأَنَّهَا تَتَلَاشَى وَفِي مِقْدَارِ الْحِمَّصَةِ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ زُفَرَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ أَيْضًا لِأَنَّهُ طَعَامٌ مُتَغَيِّرٌ، وَلِأَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ يَعَافُهُ الطَّبْعُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَأَشْبَهَ الْغُبَارَ وَالدُّخَانَ) إذَا دَخَلَا فِي الْحَلْقِ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَطَاعُ الِاحْتِرَازُ عَنْ دُخُولِهِمَا لِدُخُولِهِمَا مِنْ الْأَنْفِ إذَا طَبَّقَ الْفَمَ وَصَارَ أَيْضًا كَبَلَلٍ يَبْقَى فِي فِيهِ بَعْدَ الْمَضْمَضَةِ. وَنَظِيرُهُ فِي الْخِزَانَةِ إذَا دَخَلَ دُمُوعُهُ أَوْ عَرَقُهُ حَلْقَهُ وَهُوَ قَلِيلٌ كَقَطْرَةٍ أَوْ قَطْرَتَيْنِ لَا يُفْطِرُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ بِحَيْثُ يَجِدُ مُلُوحَتَهُ فِي الْحَلْقِ فَسَدَ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْقَطْرَةَ يَجِدُ مُلُوحَتَهَا، فَالْأَوْلَى عِنْدِي الِاعْتِبَارُ بِوِجْدَانِ الْمُلُوحَةِ لِصَحِيحِ الْحِسِّ، لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِي أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ، وَمَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: لَوْ دَخَلَ دَمْعُهُ أَوْ عَرَقُ جَبِينِهِ أَوْ دَمُ رُعَافِهِ حَلْقَهُ فَسَدَ صَوْمُهُ يُوَافِقُ مَا ذَكَرْتُهُ، فَإِنَّهُ عَلَّقَ بِوُصُولِهِ إلَى الْحَلْقِ وَمُجَرَّدُ وُجْدَانِ الْمُلُوحَةِ دَلِيلُ ذَلِكَ.
قولهُ: (إذَا أَوَاهُ خَيْمَةٌ أَوْ سَقْفٌ) يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ كَانَ سَائِرًا مُسَافِرًا لَمْ يَفْسُدْ، فَالْأَوْلَى تَعْلِيلُ الْإِمْكَانِ بِتَيَسُّرِ طَبْقِ الْفَمِ وَفَتْحِهِ أَحْيَانًا مَعَ الِاحْتِرَازِ عَنْ الدُّخُولِ، وَلَوْ دَخَلَ فَمَهُ الْمَطَرُ فَابْتَلَعَهُ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، وَلَوْ خَرَجَ دَمٌ مِنْ أَسْنَانِهِ فَدَخَلَ حَلْقَهُ إنْ سَاوَى الرِّيقَ فَسَدَ وَإِلَّا لَا، وَلَوْ اسْتَشَمَّ الْمُخَاطَ مِنْ أَنْفِهِ حَتَّى أَدْخَلَهُ إلَى فَمِهِ وَابْتَلَعَهُ عَمْدًا لَا يُفْطِرُ، وَلَوْ خَرَجَ رِيقُهُ مِنْ فِيهِ فَأَدْخَلَهُ وَابْتَلَعَهُ إنْ كَانَ لَمْ يَنْقَطِعْ مِنْ فِيهِ بَلْ مُتَّصِلٌ بِمَا فِي فِيهِ كَالْخَيْطِ فَاسْتَشْرَبَهُ لَمْ يُفْطِرْ، وَإِنْ كَانَ انْقَطَعَ فَأَخَذَهُ وَأَعَادَهُ أَفْطَرَ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ ابْتَلَعَ رِيقَ غَيْرِهِ. وَلَوْ اجْتَمَعَ فِي فِيهِ ثُمَّ ابْتَلَعَهُ يُكْرَهُ وَلَا يُفْطِرُ، وَلَوْ اخْتَلَطَ بِالرِّيقِ لَوْنُ صَبْغِ إبْرَيْسَمٍ يَعْمَلُهُ لِلْخَيْطِ مِنْ فِيهِ فَابْتَلَعَ هَذَا الرِّيقَ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ أَفْطَرَ.
قولهُ: (لَهُ حُكْمٌ ظَاهِرٌ) فَالْإِدْخَالُ مِنْهُ كَالْإِدْخَالِ مِنْ خَارِجِهِ وَلَوْ شَدَّ الطَّعَامَ بِخَيْطٍ فَأَرْسَلَهُ فِي حَلْقِهِ وَطَرَفُهُ بِيَدِهِ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ إلَّا إذَا انْفَصَلَ مِنْهُ شَيْءٌ.
قولهُ: (وَلَنَا أَنَّ الْقَلِيلَ تَابِعٌ لِأَسْنَانِهِ بِمَنْزِلَةِ رِيقِهِ) كَمَا لَا يَفْسُدُ بِالرِّيقِ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا تَابِعًا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِامْتِنَاعُ عَنْ بَقَاءِ أَثَرٍ مَا مِنْ الْمَآكِلِ حَوَالَيْ الْأَسْنَانِ وَإِنْ قَلَّ، ثُمَّ يَجْرِي مَعَ الرِّيقِ التَّابِعِ مِنْ مَحَلِّهِ إلَى الْحَلْقِ، فَامْتَنَعَ تَعْلِيقُ الْإِفْطَارِ بِعَيْنِهِ فَيُعَلَّقُ بِالْكَثِيرِ وَهُوَ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ لِأَنَّهُ اُعْتُبِرَ كَثِيرًا فِي فَصْلِ الصَّلَاةِ، وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ جَعَلَ الْفَاصِلَ كَوْنَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ فِي ابْتِلَاعِهِ إلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالرِّيقِ أَوْ لَا. الْأَوَّلُ قَلِيلٌ، وَالثَّانِي كَثِيرٌ، وَهُوَ حَسَنٌ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْحُكْمِ بِالْإِفْطَارِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْوُصُولِ كَوْنُهُ لَا يَسْهُلُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، وَذَلِكَ فِيمَا يَجْرِي بِنَفْسِهِ مَعَ الرِّيقِ إلَى الْجَوْفِ لَا فِيمَا يَتَعَمَّدْ فِي إدْخَالِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ فِيهِ.
قولهُ: (ثُمَّ أَكَلَهُ يَنْبَغِي أَنْ يُفْسِدَ) الْمُتَبَادَرُ مِنْ لَفْظَةِ أَكَلَهُ الْمَضْغُ وَالِابْتِلَاعُ أَوْ الْأَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ. وَمِنْ مُجَرَّدِ الِابْتِلَاعِ فَيُفِيدُ حِينَئِذٍ خِلَافَ مَا فِي شَرْحِ الْكَنْزِ أَنَّهُ إذَا مَضَغَ مَا أَدْخَلَهُ وَهُوَ دُونَ الْحِمَّصَةِ لَا يُفَطِّرُهُ، لَكِنَّ تَشْبِيهَهُ بِمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ عَدَمِ الْفَسَادِ فِي ابْتِلَاعِ سِمْسِمَةٍ بَيْنَ أَسْنَانِهِ، وَالْفَسَادُ إذَا أَكَلَهَا مِنْ خَارِجٍ وَعَدَمُهُ إذَا مَضَغَهَا يُوجِبُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَكْلِ الِابْتِلَاعُ فَقَطْ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ لِعَطَاءِ النَّظِيرِ، وَفِي الْكَافِي فِي السِّمْسِمَةِ قَالَ: إنْ مَضَغَهَا لَا يَفْسُدُ إلَّا أَنْ يَجِدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ. وَهَذَا حَسَنٌ جِدًّا فَلْيَكُنْ الْأَصْلَ فِي كُلِّ قَلِيلٍ مَضَغَهُ، وَإِذَا ابْتَلَعَ السِّمْسِمَةَ حَتَّى فَسَدَ هَلْ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ؟ قِيلَ: لَا، وَالْمُخْتَارُ وُجُوبُهَا لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ مَا يَتَغَذَّى بِهِ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ.
قولهُ: (وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَعَافُهُ الطَّبْعُ) فَصَارَ نَظِيرَ التُّرَابِ، وَزُفَرُ يَقول: بَلْ نَظِيرُ اللَّحْمِ الْمُنْتِنِ، وَفِيهِ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُفْتِيَ فِي الْوَقَائِعِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ضَرْبِ اجْتِهَادٍ وَمَعْرِفَةٍ بِأَحْوَالِ النَّاسِ، وَقَدْ عَرَفَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَفْتَقِرُ إلَى كَمَالِ الْجِنَايَةِ فَيَنْظُرُ فِي صَاحِبِ الْوَاقِعَةِ إنْ كَانَ مِمَّنْ يَعَافُ طَبْعُهُ ذَلِكَ أَخَذَ بِقول أَبِي يُوسُفَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا أَثَرَ لِذَلِكَ عِنْدَهُ أَخَذَ بِقول زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَلَوْ ابْتَلَعَ حَبَّةَ عِنَبٍ لَيْسَ مَعَهَا تَفْرُوقُهَا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ كَانَ مَعَهَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنْ مَضَغَهَا وَهُوَ مَعَهَا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.

متن الهداية:
(فَإِنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ لَمْ يُفْطِرْ) لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَاءَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَمَنْ اسْتَقَاءَ عَامِدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ» وَيَسْتَوِي فِيهِ مِلْءُ الْفَمِ فَمَا دُونَهُ فَلَوْ عَادَ وَكَانَ مِلْءَ الْفَمِ فَسَدَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ خَارِجٌ حَتَّى انْتَقَضَ بِهِ الطَّهَارَةُ وَقَدْ دَخَلَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَفْسُدُ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ صُورَةُ الْفِطْرِ وَهُوَ الِابْتِلَاعُ وَكَذَا مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ لَا يَتَغَذَّى بِهِ عَادَةً، إنْ أَعَادَهُ فَسَدَ بِالْإِجْمَاعِ لِوُجُودِ الْإِدْخَالِ بَعْدَ الْخُرُوجِ فَتَتَحَقَّقُ صُورَةُ الْفِطْرِ. وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ فَعَادَ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ خَارِجٍ وَلَا صُنْعَ لَهُ فِي الْإِدْخَالِ، وَإِنْ أَعَادَهُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِعَدَمِ الْخُرُوجِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَفْسُدُ صَوْمُهُ لِوُجُودِ الصُّنْعِ مِنْهُ فِي الْإِدْخَالِ (فَإِنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا مِلْءَ فِيهِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ) لِمَا رَوَيْنَا وَالْقِيَاسُ مَتْرُوكٌ بِهِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الصُّورَةِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَفْسُدُ لِعَدَمِ الْخُرُوجِ حُكْمًا ثُمَّ إنْ عَادَ لَمْ يَفْسُدْ عِنْدَهُ لِعَدَمِ سَبْقِ الْخُرُوجِ، وَإِنْ أَعَادَهُ فَعَنْهُ: أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَعَنْهُ: أَنَّهُ يَفْسُدُ فَأَلْحَقَهُ بِمِلْءِ الْفَمِ لِكَثْرَةِ الصُّنْعِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ) أَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَاللَّفْظُ لِلتِّرْمِذِيِّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ وَهُوَ صَائِمٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ وَمَنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا فَلْيَقْضِ».
وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا مِنْ حَدِيثِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا أَرَاهُ مَحْفُوظًا لِهَذَا، يَعْنِي لِلْغَرَابَةِ وَلَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ تَصْدِيقِهِ الرَّاوِي فَإِنَّهُ هُوَ الشَّاذُّ الْمَقْبُولُ وَقَدْ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَكُلٌّ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَابْنُ حِبَّانَ وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.
وَقَالَ: رُوَاتُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، ثُمَّ قَدْ تَابَعَ عِيسَى بْنَ يُونُسَ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَسَكَتَ عَلَيْهِ وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عُمَرَ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ الْأَوْزَاعِيِّ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَفَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَلِيٍّ أَيْضًا. وَمَا رُوِيَ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَه: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَرَجَ فِي يَوْمٍ كَانَ يَصُومُهُ فَدَعَا بِإِنَاءٍ فَشَرِبَ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذَا يَوْمٌ كُنْتَ تَصُومُ، قَالَ: أَجَلْ وَلَكِنِّي قِئْتُ» مَحْمُولٌ عَلَى مَا قَبْلَ الشُّرُوعِ أَوْ عُرُوضِ الضَّعْفِ، ثُمَّ الْجَمْعُ بَيْنَ آثَارِ الْفِطْرِ مِمَّا دَخَلَ وَبَيْنَ آثَارِ الْقَيْءِ أَنَّ فِي الْقَيْءِ يَتَحَقَّقُ رُجُوعُ شَيْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ وَإِنْ قَلَّ فَلِاعْتِبَارِهِ يُفْطِرُ وَفِيمَا إذَا ذَرَعَهُ إنْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ أَيْضًا لَكِنْ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ وَلَا لِغَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادِ فَكَانَ كَالنِّسْيَانِ لَا الْإِكْرَاهِ وَالْخَطَأِ.
قولهُ: (فَلَوْ عَادَ) أَيْ الْقَيْءُ الَّذِي ذَرَعَهُ. وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إمَّا إنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ أَوْ اسْتِقَاءَ وَكُلٌّ مِنْهُمَا إمَّا مِلْءُ الْفَمِ أَوْ دُونَهُ. وَالْكُلُّ إمَّا أَنْ خَرَجَ أَوْ عَادَ أَوْ أَعَادَهُ، فَإِنْ ذَرَعَهُ وَخَرَجَ لَا يُفْطِرُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا وَإِنْ عَادَ بِنَفْسِهِ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلصَّوْمِ إنْ كَانَ مِلْءَ الْفَمِ فَسَدَ صَوْمُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ خَارِجٌ شَرْعًا حَتَّى انْتَقَضَتْ بِهِ الطَّهَارَةُ وَقَدْ دَخَلَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَفْسُدُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ صُورَةُ الْإِفْطَارِ وَهُوَ الِابْتِلَاعُ وَلَا مَعْنَاهُ إذْ لَا يَتَغَذَّى بِهِ. فَأَصْلُ أَبِي يُوسُفَ فِي الْعَوْدِ وَالْإِعَادَةِ اعْتِبَارُ الْخُرُوجِ وَهُوَ بِمِلْءِ الْفَمِ، وَأَصْلُ مُحَمَّدٍ فِيهِ الْإِعَادَةُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ وَإِنْ أَعَادَ فَسَدَ بِالِاتِّفَاقِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِلدُّخُولِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْخُرُوجِ شَرْعًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لِلصُّنْعِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ فَعَادَ لَمْ يَفْسُدْ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ أَعَادَهُ لَمْ يَفْسُدْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَهُوَ الْمُخْتَارُ، لِعَدَمِ الْخُرُوجِ شَرْعًا، وَيَفْسُدُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِوُجُودِ الصُّنْعِ، وَإِنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا وَخَرَجَ إنْ كَانَ مِلْءَ الْفَمِ فَسَدَ صَوْمُهُ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا رَوَيْنَا وَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ تَفْرِيعُ الْعَوْدِ وَالْإِعَادَةُ لِأَنَّهُ أَفْطَرَ بِمُجَرَّدِ الْقَيْءِ قَبْلَهُمَا، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ فِيهِ أَفْطَرَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَاهُ وَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ التَّفْرِيعُ أَيْضًا عِنْدَهُ، وَلَا يُفْطِرُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ. لَكِنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ كَقول مُحَمَّدٍ ذَكَرَهُ فِي الْكَافِي، ثُمَّ إنْ عَادَ بِنَفْسِهِ لَمْ يُفْطِرْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلَا يَتَحَقَّقُ الدُّخُولُ لِعَدَمِ الْخُرُوجِ، وَإِنْ أَعَادَهُ فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ لَا يُفْطِرُ لِعَدَمِ الْخُرُوجِ.
وَفِي رِوَايَةٍ يُفْطِرُ لِكَثْرَةِ الصُّنْعِ، وَزُفَرُ مَعَ مُحَمَّدٍ فِي أَنَّ قَلِيلَهُ يُفْسِدُ الصَّوْمَ جَرْيًا عَلَى أَصْلِهِ فِي انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ بِقَلِيلِهِ (قولهُ: وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَفْسُدُ) ذَكَرْنَا أَنَّهُ الصَّحِيحُ.
قولهُ: (عَادَةً) قَيَّدَ بِهِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَتَغَذَّى بِهِ فَإِنَّهُ بِحَسَبِ الْأَصْلِ مَطْعُومٌ، فَإِذَا اسْتَقَرَّ فِي الْمَعِدَةِ يَحْصُلُ بِهِ التَّغَذِّي، بِخِلَافِ الْحَصَى وَنَحْوِهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَعْتَدَّ فِيهِ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْحِلِّ وَنُفُورِ الطَّبْعِ.
قولهُ: (فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) تَقَدَّمَ أَنَّهُ الْمُصَحَّحُ.
قولهُ: (فَإِنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا) قَيَّدَ بِهِ لِيُخْرِجَ مَا إذَا اسْتَقَى نَاسِيًا لِصَوْمِهِ فَإِنَّهُ لَا يَفْسُدُ بِهِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُفْطِرَاتِ.
قولهُ: (وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَفْسُدُ) صَحَّحَهُ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ، وَعَلِمْت أَنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: أَعْنِي مِنْ حَيْثُ الْإِطْلَاقُ فِيهَا، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْقَيْءُ طَعَامًا أَوْ مَاءً أَوْ مُرَّةً، فَإِنْ كَانَ بَلْغَمًا غَيْرَ مُفْسِدٍ لِلصَّوْمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ إذَا مَلَأَ الْفَمَ بِنَاءً عَلَى قولهِ إنَّهُ نَاقِضٌ. وَيَظْهَرُ أَنَّ قولهُ هُنَا أَحْسَنُ مِنْ قولهِمَا بِخِلَافِ نَقْضِ الطَّهَارَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِفْطَارَ إنَّمَا نِيطَ بِمَا يَدْخُلُ أَوْ بِالْقَيْءِ عَمْدًا، إمَّا نَظَرًا إلَى أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ عَادَةً دُخُولَ شَيْءٍ أَوْ لَا بِاعْتِبَارِهِ بَلْ ابْتِدَاءِ شَرْعِ تَفْطِيرِهِ بِشَيْءٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلْحَظَ فِيهِ تَحَقُّقَ كَوْنِهِ خَارِجًا نَجَسًا أَوْ طَاهِرًا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَلْغَمِ وَغَيْرِهِ حِينَئِذٍ، بِخِلَافِ نَقْضِ الطَّهَارَةِ، وَلَوْ اسْتَقَاءَ مِرَارًا فِي مَجْلِسٍ مِلْءَ فِيهِ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَإِنْ كَانَ فِي مَجَالِسَ أَوْ غَدْوَةٍ ثُمَّ نِصْفِ النَّهَارِ ثُمَّ عَشِيَّةٍ لَا يَلْزَمُهُ، كَذَا نَقَلَ مِنْ خِزَانَةِ الْأَكْمَلِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ ابْتَلَعَ الْحَصَاةَ أَوْ الْحَدِيدَ أَفْطَرَ) لِوُجُودِ صُورَةِ الْفِطْرِ (وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ) لِعَدَمِ الْمَعْنَى.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِعَدَمِ الْمَعْنَى) أَيْ مَعْنَى الْفِطْرِ وَهُوَ إيصَالُ مَا فِيهِ نَفْعُ الْبَدَنِ إلَى الْجَوْفِ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يُتَغَذَّى بِهِ أَوْ يُتَدَاوَى بِهِ فَقَصُرَتْ الْجِنَايَةُ فَانْتَفَتْ الْكَفَّارَةُ، وَكُلُّ مَا لَا يُتَغَذَّى بِهِ وَلَا يُتَدَاوَى بِهِ عَادَةً كَالْحَجَرِ وَالتُّرَابِ، كَذَلِكَ لَا تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ. وَلَا تَجِبُ فِي الدَّقِيقِ وَالْأُرْزِ وَالْعَجِينِ إلَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَا فِي الْمِلْحِ إلَّا إذَا اعْتَادَ أَكْلَهُ وَحْدَهُ. وَقِيلَ: تَجِبُ فِي قَلِيلِهِ دُونَ كَثِيرِهِ، وَلَا فِي النَّوَاةِ وَالْقُطْنِ وَالْكَاغِدِ وَالسَّفَرْجَلِ إذَا لَمْ يُدْرِكْ، وَلَا هُوَ مَطْبُوخٌ. وَلَا فِي ابْتِلَاعِ الْجَوْزَةِ الرَّطْبَةِ، وَتَجِبُ لَوْ مَضَغَهَا وَبَلَعَ الْيَابِسَةَ وَمَضَغَهَا عَلَى هَذَا، وَكَذَا يَابِسُ اللَّوْزِ وَالْبُنْدُقِ وَالْفُسْتُقِ. وَقِيلَ: هَذَا إنْ وَصَلَ الْقِشْرُ أَوَّلًا إلَى حَلْقِهِ، أَمَّا إذَا وَصَلَ اللُّبُّ أَوَّلًا كَفَّرَ، وَفِي ابْتِلَاعِ اللَّوْزَةِ الرَّطْبَةِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهَا تُؤْكَلُ كَمَا هِيَ، بِخِلَافِ الْجَوْزَةِ فَلِذَا افْتَرَقَا، وَابْتِلَاعُ التُّفَّاحَةِ كَاللَّوْزَةِ وَالرُّمَّانَةِ وَالْبَيْضَةِ كَالْجَوْزَةِ.
وَفِي ابْتِلَاعِ الْبِطِّيخَةِ الصَّغِيرَةِ وَالْخَوْخَةِ الصَّغِيرَةِ، وَالهَلَيْلَجَةِ. رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ، وَتَجِبُ بِأَكْلِ اللَّحْمِ النِّيءِ، وَإِنْ كَانَ مَيْتَهً مُنْتِنًا إلَّا إنْ دَوَّدَ فَلَا تَجِبُ. وَاخْتُلِفَ فِي الشَّحْمِ، وَاخْتَارَ أَبُو اللَّيْثِ الْوُجُوبَ، فَإِنْ كَانَ قَدِيدًا وَجَبَتْ بِلَا خِلَافٍ، وَتَجِبُ بِأَكْلِ الْحِنْطَةِ وَقَضْمِهَا لَا إنْ مَضَغَ قَمْحَةً لِلتَّلَاشِي وَتَجِبُ بِالطِّينِ الْأَرْمَنِيِّ وَبِغَيْرِهِ عَلَى مَنْ يَعْتَادُ أَكْلَهُ كَالْمُسَمَّى بِالطِّفْلِ لَا عَلَى مَنْ لَمْ يَعْتَدْهُ، وَلَا بِأَكْلِ الدَّمِ إلَّا عَلَى رِوَايَةٍ، وَلَوْ مَضَغَ لُقْمَةً نَاسِيًا فَتَذَكَّرَ فَابْتَلَعَهَا قِيلَ تَجِبُ، وَقِيلَ لَا، وَقِيلَ، إنْ ابْتَلَعَهَا قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهَا إلَّا إنْ أَخْرَجَهَا ثُمَّ ابْتَلَعَهَا، وَقِيلَ بِالْعَكْسِ.
وَصَحَّحَهُ أَبُو اللَّيْثِ لِأَنَّهَا بَعْدَ إخْرَاجِهَا تُعَافُ وَقَبْلَهُ تُلَذُّ، وَقِيلَ إنْ كَانَتْ سُخْنَةً بَعْدُ فَعَلَيْهِ لَا إنْ تَرَكَهَا بَعْدَ الْإِخْرَاجِ حَتَّى بَرَدَتْ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تُعَافُ لَا قَبْلَهُ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَنْظُورَ إلَيْهِ عِنْدَ الْكُلِّ فِي السُّقُوطِ الْعِيَافَةُ غَيْرَ أَنَّ كُلًّا وَقَعَ عِنْدَهُ أَنَّ الِاسْتِكْرَاهَ إنَّمَا يَثْبُتُ عِنْدَ كَذَا لَا كَذَا.

متن الهداية:
(وَمَنْ جَامَعَ فِي أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ عَامِدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ) اسْتِدْرَاكًا لِلْمَصْلَحَةِ الْفَائِتَةِ (وَالْكَفَّارَةُ) لِتَكَامُلِ الْجِنَايَةِ وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِنْزَالُ فِي الْمَحَلَّيْنِ اعْتِبَارًا بِالِاغْتِسَالِ، وَهَذَا لِأَنَّ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ يَتَحَقَّقُ دُونَهُ وَإِنَّمَا ذَلِكَ شِبَعٌ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْجِمَاعِ فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ اعْتِبَارًا بِالْحَدِّ عِنْدَهُ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا تَجِبُ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مُتَكَامِلَةٌ لِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ (وَلَوْ جَامَعَ مَيْتَةً أَوْ بَهِيمَةً فَلَا كَفَّارَةَ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تَكَامُلُهَا بِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ فِي مَحَلٍّ مُشْتَهًى وَلَمْ يُوجَدْ، ثُمَّ عِنْدَنَا كَمَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْوِقَاعِ عَلَى الرَّجُلِ تَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قول: لَا تَجِبُ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْجِمَاعِ وَهُوَ فِعْلُهُ وَإِنَّمَا هِيَ مَحَلُّ الْفِعْلِ، وَفِي قول: تَجِبُ، وَيَتَحَمَّلُ الرَّجُلُ عَنْهَا اعْتِبَارًا بِمَاءِ الِاغْتِسَالِ. وَلَنَا قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ» وَكَلِمَةُ مَنْ تَنْتَظِمُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ، وَلِأَنَّ السَّبَبَ جِنَايَةُ الْإِفْسَادِ لَا نَفْسُ الْوِقَاعِ وَقَدْ شَارَكْته فِيهَا وَلَا يَتَحَمَّلُ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ أَوْ عُقُوبَةٌ، وَلَا يَجْرِي فِيهَا التَّحَمُّلُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ اسْتِدْرَاكًا لِلْمَصْلَحَةِ الْفَائِتَةِ وَالْكَفَّارَةِ) فَلَوْ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ فَصَامَ أَحَدًا وَسِتِّينَ يَوْمًا عَنْ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ يَوْمِ الْقَضَاءِ مِنْهَا قَالُوا يُجْزِئُهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ.
وَفِي تَصْوِيرِهِ عِنْدِي ضَرْبُ إشْكَالٍ لِأَنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ لِكُلِّ يَوْمٍ، فَإِذَا كَانَ الْوَاقِعُ نِيَّتَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ فَإِنَّمَا يَصِحُّ بِالتَّرْجِيحِ عَلَى مَا عُرِفَ فِيمَا إذَا نَوَى الْقَضَاءَ، وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ الْقَضَاءِ عَلَى قول أَبِي يُوسُفَ وَأَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُمَا يُرَجِّحَانِ فِي مِثْلِهِ وَرَجَّحَا فِي هَذِهِ الْقَضَاءَ بِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فَإِنَّهَا يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى حَقِّ نَفْسِهِ فَيُرَجَّحُ الْقَضَاءُ هُنَا عَلَى كَفَّارَةِ الْفِطْرِ بِقُوَّةِ ثُبُوتِهِ وَلُزُومِهِ، بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْفِطْرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَقَعُ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ عَنْ الْقَضَاءِ وَمَا بَعْدَهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ فَيَلْغُوا جَمْعُ الْقَضَاءِ مَعَ الْكَفَّارَةِ، وَلَوْ كَانَ الْوَاقِعُ نِيَّةَ ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فَقَطْ فَهَكَذَا، أَوْ فِي الْأَخِيرِ فَقَطْ تَعَيَّنَ الْأَخِيرُ لِلْقَضَاءِ لِلَغْوِ جَمْعِ الْكَفَّارَةِ إذْ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، وَلَوْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ تَعَيَّنَ الْيَوْمُ الَّذِي نَوَى كَذَلِكَ لِلْقَضَاءِ، وَبَطَلَ مَا قَبْلَهُ، وَإِنْ كَانَ تِسْعَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا لِانْقِطَاعِ التَّتَابُعِ فِي الْكَفَّارَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِئْنَافُ. وَلَوْ جَامَعَ مِرَارًا فِي أَيَّامٍ مِنْ رَمَضَانَ وَاحِدٍ وَلَمْ يُكَفِّرْ كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، فَلَوْ جَامَعَ فَكَفَّرَ ثُمَّ جَامَعَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرَوَى زُفَرُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إنَّمَا عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ جَامَعَ فِي رَمَضَانَيْنِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ، وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَكَذَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَتَكَرَّرُ فِي الْكُلِّ لِتَكَرُّرِ السَّبَبِ، وَلَنَا إطْلَاقُ جَوَابِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْأَعْرَابِيِّ بِإِعْتَاقِ رَقَبَةٍ، وَإِنْ كَانَ قولهُ: وَقَعْت عَلَى امْرَأَتِي. يَحْتَمِلُ الْوَحْدَةَ وَالْكَثْرَةَ وَلَمْ يَسْتَفْسِرْهُ، فَدَلَّ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ، وَلِأَنَّ مَعْنَى الزَّجْرِ مُعْتَبَرٌ فِي هَذِهِ الْكَفَّارَةِ بِدَلِيلِ اخْتِصَاصِهَا بِالْعَمْدِ وَعَدَمِ الشُّبْهَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ، وَالزَّجْرُ يَحْصُلُ بِكَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ بِخِلَافِ مَا إذَا جَامَعَ فَكَفَّرَ ثُمَّ جَامَعَ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الزَّجْرَ لَمْ يَحْصُلْ بِالْأَوَّلِ، وَلَوْ أَفْطَرَ فِي يَوْمٍ فَأَعْتَقَ ثُمَّ أَفْطَرَ فِي آخَرَ فَأَعْتَقَ ثُمَّ فِي آخَرَ فَأَعْتَقَ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الرَّقَبَةُ الْأُولَى أَوْ الثَّانِيَةُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمُتَأَخِّرَ يَجْزِيهِ، وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الرَّقَبَةُ الثَّالِثَةُ فَعَلَيْهِ إعْتَاقُ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ لَا يُجْزِي عَمَّا تَأَخَّرَ. وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الثَّانِيَةُ أَيْضًا فَعَلَيْهِ وَاحِدَةٌ لِلثَّانِي وَالثَّالِثِ، وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الْأُولَى أَيْضًا فَكَذَلِكَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ بِالِاسْتِحْقَاقِ يُلْتَحَقُ بِالْعَدَمِ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَقَدْ أَفْطَرَ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَمْ يُكَفِّرْ بِشَيْءٍ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الْأُولَى وَالثَّالِثَةُ دُونَ الثَّانِيَةِ أَعْتَقَ وَاحِدَةً لِلثَّالِثَةِ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ كَفَتْ عَنْ الْأُولَى، وَالْأَصْلُ أَنَّ الثَّانِيَ يَجْزِي عَمَّا قَبْلَهُ لَا عَمَّا بَعْدَهُ، وَلَوْ أَفْطَرَ وَهُوَ مُقِيمٌ بَعْدَ النِّيَّةِ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ثُمَّ فِي يَوْمِهِ سَافَرَ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ، وَلَوْ مَرِضَ فِيهِ سَقَطَتْ لِأَنَّ الْمَرَضَ مَعْنًى يُوجِبُ تَغَيُّرَ الطَّبِيعَةِ إلَى الْفَسَادِ وَيَحْدُثُ أَوَّلًا فِي الْبَاطِنِ ثُمَّ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فَلَمَّا مَرِضَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ الْمُرَخِّصُ مَوْجُودًا وَقْتَ الْفِطْرِ فَمَنَعَ انْعِقَادَهُ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ. أَوْ نَقول: وُجُودُ أَصْلِهِ شُبْهَةٌ، وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ مَعَهَا، أَمَّا السَّفَرُ فَبِنَفْسِ الْخُرُوجِ الْمَخْصُوصِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْحَالِ فَلَمْ يَظْهَرْ الْمَانِعُ حَالَ الْفِطْرِ، وَلَوْ أَفْطَرَتْ ثُمَّ حَاضَتْ أَوْ نَفِسَتْ لَا كَفَّارَةَ لِأَنَّ الْحَيْضَ دَمٌ يَجْتَمِعُ فِي الرَّحِمِ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى يَتَهَيَّأَ لِلْبُرُوزِ فَلَمَّا بَرَزَ مِنْ يَوْمِهِ ظَهَرَ تَهَيُّؤُهُ وَيَجِبُ الْفِطْرُ، أَوْ تَهَيُّؤُ أَصْلِهِ فَيُوَرِّثُ الشُّبْهَةَ، وَلَوْ سَافَرَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مُكْرَهًا لَا تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ خِلَافًا لِزُفَرَ، وَلَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ فَمَرِضَ مَرَضًا مُرَخِّصًا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ، وَالْمُخْتَارُ لَا تَسْقُطُ لِأَنَّ الْمَرَضَ مِنْ الْجُرْحِ، وَأَنَّهُ وُجِدَ مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَاضِي.
قولهُ: (وَإِنَّمَا ذَلِكَ شِبَعٌ) أَفَادَ تَكَامُلَ الْجِنَايَةِ قَبْلَهُ فَبِمُجَرَّدِ الْإِيلَاجِ حَصَلَ قَضَاءُ شَهْوَةِ الْفَرْجِ عَلَى الْكَمَالِ وَالْإِنْزَالِ شِبَعٌ أَكْمَلُ، وَلَا تَتَوَقَّفُ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ كَمَا بِالْأَكْلِ تَجِبُ بِلُقْمَةٍ لَا بِالشِّبَعِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَشْتَرِطْ الْإِنْزَالَ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ وَهُوَ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، فَلَأَنْ لَا يَشْتَرِطَ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَفِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ الَّتِي يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهَا أَوْلَى فَعَدَمُ الِاشْتِرَاطِ عَلَى هَذَا ثَابِتٌ بِدَلَالَةِ نَصِّ الْحَدِّ.
قولهُ: (تَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ) لَوْ قَالَ: عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ كَانَ أَفْيَدَ إذْ يَدْخُلُ الْمُلَاطُ بِهِ طَائِعًا، وَفِي الْكَافِي: إنْ وَطِئَ فِي الدُّبُرِ، فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ لَا يَجْعَلُ هَذَا الْفِعْلَ كَامِلًا حَتَّى لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ وَلَا شُبْهَةَ فِي جَانِبِ الْمَفْعُولِ بِهِ إذْ لَيْسَ فِيهِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ. وَعَنْهُ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ، وَهُوَ قولهُمَا وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مُتَكَامِلَةٌ، وَإِنَّمَا ادَّعَى أَبُو حَنِيفَةَ النُّقْصَانَ فِي مَعْنَى الزِّنَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يُفْسِدُ الْفِرَاشَ وَلَا عِبْرَةَ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ بِهِ.
قولهُ: (وَفِي قول يَتَحَمَّلُ) يَعْنِي إذَا كَفَّرَ بِالْمَالِ.
قولهُ: (وَلَنَا قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ») اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ. وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ رَجُلًا أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً أَوْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ أَوْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا» عَلَّقَ الْكَفَّارَةَ بِالْإِفْطَارِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ لِأَنَّهُ حِكَايَةُ وَاقِعَةِ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا فَيَجِبُ كَوْنُ ذَلِكَ الْمُفْطِرِ. بِأَمْرٍ خَاصٍّ لَا بِالْأَعَمِّ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ أَنَّهُ بِالْجِمَاعِ أَوْ بِغَيْرِهِ فَلَا مُتَمَسِّكَ بِهِ لِأَحَدٍ، بَلْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ جِمَاعُ الرَّجُلِ وَهُوَ السَّائِلُ لِمَجِيئِهِ مُفَسَّرًا كَذَلِكَ بِرِوَايَةٍ مِنْ نَحْوِ عِشْرِينَ رَجُلًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قُلْنَا: وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ تَعْلِيقُهَا بِالْإِفْطَارِ فِي عِبَارَةِ الرَّاوِي أَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ، إذْ أَفَادَ أَنَّهُ فَهِمَ مِنْ خُصُوصِ الْأَحْوَالِ الَّتِي يُشَاهِدُهَا فِي قَضَائِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَوْ سَمِعَ مَا يُفِيدُ أَنَّ إيجَابَهَا عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ إفْطَارٌ لَا بِاعْتِبَارِ خُصُوصِ الْإِفْطَارِ فَيَصِحُّ التَّمَسُّكُ، وَهَذَا كَمَا قَالُوا فِي أُصُولِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ مَا إذَا نَقَلَ الرَّاوِي بِلَفْظٍ ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ فَإِنَّهُمْ اخْتَارُوا اعْتِبَارَهُ وَمَثَّلُوهُ بِقول الرَّاوِي قُضِيَ بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى فَهَذَا مِثْلُهُ بِلَا تَفَاوُتٍ لِمَنْ تَأَمَّلَ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ يَجِبُ عَلَيْهَا إذَا طَاوَعَتْهُ فَالْكَفَّارَةُ أَوْلَى عَلَى نَظِيرِ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا فَتَكُونُ ثَابِتَةً بِدَلَالَةِ نَصِّ حَدِّهَا.

متن الهداية:
(وَلَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ مَا يَتَغَذَّى بِهِ أَوْ يَتَدَاوَى بِهِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ فِي الْوِقَاعِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِارْتِفَاعِ الذَّنْبِ بِالتَّوْبَةِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَعَلَّقَتْ بِجِنَايَةِ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ وَقَدْ تَحَقَّقَتْ، وَبِإِيجَابِ الْإِعْتَاقِ تَكْفِيرًا عُرِفَ أَنَّ التَّوْبَةَ غَيْرُ مُكَفِّرَةٍ لِهَذِهِ الْجِنَايَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَعَلَّقَتْ بِجِنَايَةِ الْإِفْطَارِ) مَأْخُوذٌ ذَلِكَ مِنْ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَه: «مَنْ أَفْطَرَ رَمَضَانَ» الْحَدِيثَ، وَمِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ قول أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنَّ رَجُلًا أَكَلَ فِي رَمَضَانَ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْتِقَ» الْحَدِيثَ وَأَعَلَّهُ بِأَبِي مَعْشَرٍ، وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْعِلَلِ فِي حَدِيثِ الَّذِي وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْطَرْتَ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا» الْحَدِيثَ وَهَذَا مُرْسَلُ سَعِيدٍ، وَهُوَ مَقْبُولٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِمَّنْ لَا يَقْبَلُ لِلْمُرْسَلِ، وَعِنْدَنَا هُوَ حُجَّةٌ مُطْلَقًا. وَأَيْضًا دَلَالَةُ نَصِّ الْكَفَّارَةِ بِالْجِمَاعِ تُفِيدُهُ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ مَنْ عَلِمَ اسْتِوَاءَ الْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي أَنَّ رُكْنَ الصَّوْمِ الْكَفُّ عَنْ كُلِّهَا، ثُمَّ عَلِمَ لُزُومَ عُقُوبَةٍ عَلَى مَنْ فَوَّتَ الْكَفَّ عَنْ بَعْضِهَا جَزَمَ بِلُزُومِهَا عَلَى مَنْ فَوَّتَ الْكَفَّ عَنْ الْبَعْضِ الْآخَرِ حُكْمًا لِلْعِلْمِ بِذَلِكَ الِاسْتِوَاءِ غَيْرَ مُتَوَقِّفٍ فِيهِ عَلَى أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ، أَعْنِي بَعْدَ حُصُولِ الْعِلْمَيْنِ يَحْصُلُ الْعِلْمُ الثَّالِثُ، وَيَفْهَمُ كُلُّ عَالِمٍ بِهِمَا أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي لُزُومِهَا تَفْوِيتُ الرُّكْنِ لَا خُصُوصُ رُكْنٍ.
قولهُ: (وَبِإِيجَابِ الْإِعْتَاقِ إلَخْ) جَوَابٌ عَنْ قولهِ فِي وَجْهِ مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ لِارْتِفَاعِ الذَّنْبِ بِالتَّوْبَةِ، وَهُوَ غَيْرُ دَافِعٍ لِكَلَامِهِ لِأَنَّهُ يُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا الذَّنْبَ لَا يَرْتَفِعُ بِمُجَرَّدِ التَّوْبَةِ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ كَوْنُهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ يَعْنِي الْقَاعِدَةَ الْمُسْتَمِرَّةَ فِي الشَّرْعِ.

متن الهداية:
ثُمَّ قَالَ: (وَالْكَفَّارَةُ مِثْلُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ «فَإِنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ وَأَهْلَكْتُ. فَقَالَ: مَاذَا صَنَعْتَ. قَالَ: وَاقَعْتُ امْرَأَتِي فِي نَهَارِ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً. فَقَالَ: لَا أَمْلِكُ إلَّا رَقَبَتِي هَذِهِ، فَقَالَ: صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. فَقَالَ: وَهَلْ جَاءَنِي مَا جَاءَنِي إلَّا مِنْ الصَّوْمِ فَقَالَ: أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا. فَقَالَ: لَا أَجِدُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُؤْتَى بِفَرْقٍ مِنْ تَمْرٍ. وَيُرْوَى بِعَرَقٍ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، وَقَالَ: فَرِّقْهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ أَحْوَجُ مِنِّي وَمِنْ عِيَالِي، فَقَالَ: كُلْ أَنْتَ وَعِيَالُكَ، يَجْزِيكَ وَلَا يَجْزِي أَحَدًا بَعْدَكَ»، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي قولهِ يُخَيَّرُ لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ التَّرْتِيبُ وَعَلَى مَالِكٍ فِي نَفْيِ التَّتَابُعِ لِلنَّصِّ عَلَيْهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ) فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: هَلَكْتُ، قَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ، قَالَ: فَهَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ لَا. قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا قَالَ: لَا، قَالَ اجْلِسْ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ فَقَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ، قَالَ: عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَوَاَللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ، أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَضَحِكَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَتَّى بَدَتْ ثَنَايَاهُ» وَفِي لَفْظٍ «أَنْيَابُهُ».وَفِي لَفْظٍ «نَوَاجِذُهُ». «ثُمَّ قَالَ: خُذْهُ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ» وَفِي لَفْظٍ لِأَبِي دَاوُد زَادَ الزُّهْرِيُّ: وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا رُخْصَةً لَهُ خَاصَّةً، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَمْ تَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ التَّكْفِيرِ. قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: قول الزُّهْرِيِّ ذَلِكَ دَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَعَنْ ذَلِكَ ذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ بِأَيِّ شَيْءٍ أَفْطَرَ. قَالَ: لِانْتِسَاخِهِ بِمَا فِي آخِرِ الْحَدِيثِ بِقوله: «كُلْهَا أَنْتَ وَعِيَالُكَ».اهـ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى قول الزُّهْرِيِّ، وَمَا رَفَعَ الْمُصَنِّفُ قوله: «يَجْزِيكَ وَلَا يَجْزِي أَحَدًا بَعْدَكَ» فَلَمْ يُرَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ، وَكَذَا لَمْ يُوجَدْ فِيهَا لَفْظُ الْفَرْقِ بِالْفَاءِ بَلْ بِالْعَيْنِ. وَهُوَ مِكْتَلٌ يَسَعُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا عَلَى مَا قِيلَ. قُلْنَا: وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ أَخَّرَ عَنْهُ إلَى الْمَيْسَرَةِ إذْ كَانَ فَقِيرًا فِي الْحَالِ عَاجِزًا عَنْ الصَّوْمِ بَعْدَمَا ذَكَرَ لَهُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ. كَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خُصُوصِيَّةٌ لِأَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ «فَقَدْ كَفَّرَ اللَّهُ عَنْكَ»، وَلَفْظُ وَأَهْلَكْت لَيْسَ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ، لَكِنْ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ: حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ. حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَلَكْتُ وَأَهْلَكْتُ» الْحَدِيثَ. قَالَ: تَفَرَّدَ أَبُو ثَوْرٍ عَنْ مُعَلَّى بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِقوله: «وَأَهْلَكْت» وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَفِيه: «وَأَهْلَكْت».
وَقَالَ: ضَعَّفَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ هَذِهِ اللَّفْظَةَ، وَكَافَّةُ أَصْحَابِ الْأَوْزَاعِيِّ رَوَوْهُ عَنْهُ دُونَهَا. وَاسْتَدَلَّ الْحَاكِمُ عَلَى أَنَّهَا خَطَأٌ بِأَنَّهُ نَظَرَ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ تَصْنِيفِ ابْنِ مَنْصُورٍ فَوَجَدَ فِيهِ هَذَا الْحَدِيثَ دُونَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ وَأَنَّ كَافَّةَ أَصْحَابِ سُفْيَانَ رَوَوْهُ دُونَهَا.

متن الهداية:
(وَمَنْ جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ) لِوُجُودِ الْجِمَاعِ مَعْنًى (وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ) لِانْعِدَامِهِ صُورَةً.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ) أَرَادَ بِالْفَرْجِ كُلًّا مِنْ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ فَمَا دُونَهُ حِينَئِذٍ التَّفْخِيذُ وَالتَّبْطِينُ، وَعَمَلُ الْمَرْأَتَيْنِ أَيْضًا كَعَمَلِ الرِّجَالِ جِمَاعٌ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ لَا قَضَاءَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إلَّا إذَا أَنْزَلَتْ، وَلَا كَفَّارَةَ مَعَ الْإِنْزَالِ (وَلَيْسَ فِي إفْسَادِ صَوْمِ غَيْرِ رَمَضَانَ كَفَّارَةٌ) لِأَنَّ الْإِفْطَارَ فِي رَمَضَانَ أَبْلَغُ فِي الْجِنَايَةِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَلَا يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ) فِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ بِإِفْسَادِهِ إذْ الْقِيَاسُ مُمْتَنِعٌ، وَكَذَا الدَّلَالَةُ لِأَنَّ إفْسَادَ صَوْمِ غَيْرِ رَمَضَانَ لَيْسَ فِي مَعْنَى إفْسَادِ صَوْمِ رَمَضَانَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ ذَاكَ أَبْلَغُ فِي الْجِنَايَةِ لِوُقُوعِهِ فِي شَرَفِ الزَّمَانِ، وَلُزُومُ إفْسَادِ الْحَجِّ النَّفْلِ وَالْقَضَاءِ بِالْجِمَاعِ لَيْسَ إلْحَاقًا بِفَسَادِ الْحَجِّ الْفَرْضِ، بَلْ هُوَ ثَابِتٌ ابْتِدَاءً بِعُلُومِ نَصِّ الْقَضَاءِ وَالْإِجْمَاعِ.

متن الهداية:
(وَمَنْ احْتَقَنَ أَوْ اسْتَعَطَ أَوْ أَقْطَرَ فِي أُذُنِهِ أَفْطَرَ) لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ» وَلِوُجُودِ مَعْنَى الْفِطْرِ، وَهُوَ وُصُولُ مَا فِيهِ صَلَاحُ الْبَدَنِ إلَى الْجَوْفِ (وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ) لِانْعِدَامِهِ صُورَةً. (وَلَوْ أَقْطَرَ فِي أُذُنِهِ الْمَاءَ أَوْ دَخَّلَهُ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ) لِانْعِدَامِ الْمَعْنَى وَالصُّورَةِ. بِخِلَافِ مَا إذَا دَخَلَهُ الدُّهْنُ (وَلَوْ دَاوَى جَائِفَةً أَوْ آمَّةً بِدَوَاءٍ فَوَصَلَ إلَى جَوْفِهِ أَوْ دِمَاغِهِ أَفْطَرَ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَاَلَّذِي يَصِلُ هُوَ الرَّطْبُ، وَقَالَا: لَا يُفْطِرُ لِعَدَمِ التَّيَقُّنِ بِالْوُصُولِ لِانْضِمَامِ الْمَنْفَذِ مَرَّةً وَاتِّسَاعِهِ أُخْرَى، كَمَا فِي الْيَابِسِ مِنْ الدَّوَاءِ. وَلَهُ أَنَّ رُطُوبَةَ الدَّوَاءِ تَلَاقِي رُطُوبَةَ الْجِرَاحَةِ فَيَزْدَادُ مَيْلًا إلَى الْأَسْفَلِ فَيَصِلُ إلَى الْجَوْفِ، بِخِلَافِ الْيَابِسِ لِأَنَّهُ يُنَشِّفُ رُطُوبَةَ الْجِرَاحَةِ فَيَنْسَدُّ فَمُهَا (وَلَوْ أَقْطَرَ فِي إحْلِيلِهِ لَمْ يُفْطِرْ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُفْطِرُ، وَقول مُحَمَّدٍ: مُضْطَرِبٌ فِيهِ فَكَأَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَوْفِ مَنْفَذًا، وَلِهَذَا يَخْرُجُ مِنْهُ الْبَوْلُ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمَثَانَةَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ وَالْبَوْلُ يَتَرَشَّحُ مِنْهُ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ الْفِقْهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (أَوْ أَقْطَرَ فِي أُذُنِهِ) سَيُقَيِّدُهُ بِمَا إذَا كَانَ دُهْنًا.
قولهُ: (لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «الْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ») رَوَى أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ؛ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَنْ رَزِينٍ الْبَكْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَتْنَا مَوْلَاةٌ لَنَا يُقَالُ لَهَا سَلْمَى مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقول: «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ هَلْ مِنْ كِسْرَةٍ؟ فَأَتَيْتُهُ بِقُرْصٍ فَوَضَعَهُ عَلَى فِيهِ، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ هَلْ دَخَلَ بَطْنِي مِنْهُ شَيْءٌ؟ كَذَلِكَ قُبْلَةُ الصَّائِمِ. إنَّمَا الْإِفْطَارُ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ» وَلِجَهَالَةِ الْمَوْلَاةِ لَمْ يُثْبِتْهُ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَلَا شَكَّ فِي ثُبُوتِهِ مَوْقُوفًا عَلَى جَمَاعَةٍ. فَفِي الْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ الْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ وَأَسْنَدَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فَقَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: الْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ وَأَسْنَدَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَالَ: إنَّمَا الْوُضُوءُ مِمَّا خَرَجَ وَلَيْسَ مِمَّا دَخَلَ وَالْفِطْرُ فِي الصَّوْمِ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ. وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ قول عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ يَكُونُ مَخْصُوصًا بِحَدِيثِ الِاسْتِقَاءِ أَوْ الْفِطْرِ فِيهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَعُودُ شَيْءٌ وَإِنْ قَلَّ حَتَّى لَا يُحِسَّ بِهِ، كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَرِيبٍ.
قولهُ: (وَلِوُجُودِ مَعْنَى الْفِطْرِ) قَدْ عَلِمْت أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْفِطْرُ إلَّا بِصُورَتِهِ أَوْ مَعْنَاهُ. وَقَدْ مَرَّ أَنَّ صُورَتَهُ الِابْتِلَاعُ. وَذَكَرَ أَنَّ مَعْنَاهُ وُصُولُ مَا فِيهِ صَلَاحُ الْبَدَنِ إلَى الْجَوْفِ فَاقْتَضَى فِيمَا لَوْ طُعِنَ بِرُمْحٍ أَوْ رُمِيَ بِسَهْمٍ فَبَقِيَ الْحَدِيدُ فِي بَطْنِهِ، أَوْ أَدْخَلَ خَشَبَةً فِي دُبُرِهِ وَغَيَّبَهَا، أَوْ احْتَشَتْ الْمَرْأَةُ فِي الْفَرْجِ الدَّاخِلِ أَوْ اسْتَنْجَى فَوَصَلَ الْمَاءُ إلَى دَاخِلِ دُبُرِهِ لِمُبَالَغَتِهِ فِيهِ عَدَمُ الْفِطْرِ لِفُقْدَانِ الصُّورَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَالْمَعْنَى وَهُوَ وُصُولُ مَا فِيهِ صَلَاحُ الْبَدَنِ مِنْ التَّغْذِيَةِ أَوْ التَّدَاوِي، لَكِنَّ الثَّابِتَ فِي مَسْأَلَتَيْ الطَّعْنَةِ وَالرَّمْيَةِ اخْتِلَافٌ، وَصَحَّحَ عَدَمَ الْإِفْطَارِ جَمَاعَةٌ. وَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي ثُبُوتِ الْإِفْطَارِ فِيمَا بَعْدَهُمَا. بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ طَرَفُ الْخَشَبَةِ بِيَدِهِ وَطَرْفُ الْحَشْوَةِ فِي الْفَرْجِ الْخَارِجِ وَالْمَاءُ لَمْ يَصِلْ إلَى كَثِيرِ دَاخِلٍ فَإِنَّهُ لَا يَفْسُدُ. وَالْحَدُّ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْوُصُولِ إلَيْهِ الْفَسَادُ قَدْرُ الْمِحْقَنَةِ، قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَقَلَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ.اهـ. نَعَمْ لَوْ خَرَجَ سُرْمُهُ فَغَسَلَهُ ثَبَتَ ذَلِكَ الْوُصُولُ بِلَا اسْتِبْعَادٍ. فَإِنْ قَامَ قَبْلَ أَنْ يُنَشِّفَهُ فَسَدَ صَوْمُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا نَشَّفَهُ. لِأَنَّ الْمَاءَ اتَّصَلَ بِظَاهِرٍ ثُمَّ زَالَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْبَاطِنِ بِعَوْدِ الْمَقْعَدَةِ. لَا يُقَالُ: الْمَاءُ فِيهِ صَلَاحُ الْبَدَنِ. لِأَنَّا نَقول: ذَكَرُوا أَنَّ إيصَالَ الْمَاءِ إلَى هُنَاكَ يُوَرِّثُ دَاءً عَظِيمًا. لَا يُقَالُ: يُحْمَلُ قولهُمْ مَا فِيهِ صَلَاحُ الْبَدَنِ عَلَى مَاءِ بِحَيْثُ يَصْلُحُ بِهِ وَتَنْدَفِعُ بِهِ حَاجَتُهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَحْصُلُ عِنْدَهُ ضَرَرٌ أَحْيَانًا فَيَنْدَفِعُ إشْكَالُ الِاسْتِنْجَاءِ. لِأَنَّا نَقول: قَدْ عَلَّلَ الْمُصَنِّفُ مَا اخْتَارَهُ مِنْ عَدَمِ الْفَسَادِ فِيمَا إذَا دَخَلَ الْمَاءُ أُذُنَهُ أَوْ أَدْخَلَهُ بِقولهِ لِانْعِدَامِ الْمَعْنَى وَالصُّورَةِ، وَذَلِكَ إفَادَةُ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَى جَوْفِ دِمَاغِهِ مَا فِيهِ صَلَاحُ الْبَدَنِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِمَا فِيهِ صَلَاحُ الْبَدَنِ مَا ذَكَرْت لَمْ يَصِحَّ هَذَا التَّعْلِيلُ. وَبَسَطَهُ فِي الْكَافِي فَقَالَ: لِأَنَّ الْمَاءَ يَفْسُدُ بِمُخَالَطَةِ خَلْطٍ دَاخِلِ الْأُذُنِ فَلَمْ يَصِلْ إلَى الدِّمَاغِ شَيْءٌ يَصْلُحُ لَهُ فَلَا يَحْصُلُ مَعْنَى الْفِطْرِ فَلَا يَفْسُدُ، فَالْأَوْلَى تَفْسِيرُ الصُّورَةِ بِالْإِدْخَالِ بِصُنْعِهِ كَمَا هُوَ فِي عِبَارَة الْإِمَامِ قَاضِي خَانْ فِي تَعْلِيلِ مَا اخْتَارَهُ مِنْ ثُبُوتِ الْفَسَادِ إذَا أَدْخَلَ الْمَاءَ أُذُنَهُ لَا إذَا دَخَلَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ كَمَا إذَا خَاضَ نَهْرًا حَيْثُ قَالَ: إذَا خَاضَ الْمَاءَ فَدَخَلَ أُذُنَهُ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ. وَإِنْ صَبَّ الْمَاءَ فِيهَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَالصَّحِيحُ هُوَ الْفَسَادُ لِأَنَّهُ مُوَصِّلٌ إلَى الْجَوْفِ بِفِعْلِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ صَلَاحُ الْبَدَنِ، كَمَا لَوْ أَدْخَلَ خَشَبَةً وَغَيَّبَهَا إلَى آخِرِ كَلَامِهِ، وَبِهِ تَنْدَفِعُ الْإِشْكَالَاتُ، وَيَظْهَرُ أَنَّ الْأَصَحَّ فِي الْمَاءِ التَّفْصِيلُ الَّذِي اخْتَارَهُ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ فَعَلَى هَذَا فَاعْتِبَارُ مَا بِهِ مِنْ الصَّلَاحِ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى الْفِطْرِ إمَّا عَلَى مَعْنَى مَا بِهِ فِي نَفْسِهِ كَمَا أَوْرَدْنَاهُ فِي السُّؤَالِ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ تَعْلِيلُ الْمُصَنِّفِ لِتَعْمِيمِ عَدَمِ الْإِفْسَادِ فِي دُخُولِ الْمَاءِ الْأُذُنَ فَيَصِحُّ التَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ فِيهِ. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَازِمٌ فِيمَا لَوْ احْتَقَنَ بِحُقْنَةٍ ضَارَّةٍ بِخُصُوصِ مَرَضِ الْمُحْتَقِنِ أَوْ أَكَلَ بَعْدَ الْفَجْرِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الشِّبَعِ وَالِامْتِلَاءِ قَرِيبًا مِنْ التُّخَمَةِ، فَإِنَّ الْأَكْلَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُضِرٌّ وَمَعَ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ فَضْلًا عَنْ الْقَضَاءِ الْكَفَّارَةُ، وَأَمَّا عَلَى حَقِيقَةِ الْإِصْلَاحِ كَمَا يُفِيدُهُ كَلَامُ الْكَافِي وَالْمُصَنِّفِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَلْزَمُ تَعْمِيمُ الْفَسَادِ فِي الْمَاءِ الدَّاخِلِ فِي الْأُذُنِ، وَعَلَى الثَّانِي يَلْزَمُ تَعْمِيمُ عَدَمِهِ فِيهِ. وَهَذَا وَلَوْ أَدْخَلَ الْإِصْبَعَ فِي دُبُرِهِ أَوْ فَرْجِهَا الدَّاخِلِ لَا يَفْسُدُ الصَّوْمُ إلَّا أَنْ تَكُونَ مَبْلُولَةً بِمَاءٍ أَوْ دُهْنٍ عَلَى الْمُخْتَارِ، وَقِيلَ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ وَالْقَضَاءُ.
قولهُ: (فَوَصَلَ) أَيْ الدَّوَاءُ (إلَى جَوْفِهِ) يَرْجِعُ إلَى الْجَائِفَةِ لِأَنَّهَا الْجِرَاحَةُ فِي الْبَطْنِ (أَوْ دِمَاغِهِ) يَرْجِعُ إلَى الْآمَّةِ لِأَنَّهَا الْجِرَاحَةُ فِي الرَّأْسِ مِنْ أَمَمْته بِالْعَصَا ضَرَبْت أُمَّ رَأْسِهِ وَهِيَ الْجِلْدَةُ الَّتِي هِيَ مَجْمَعُ الرَّأْسِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا تَحْرِيرَ فِي الْعِبَارَةِ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَخَذَ الْوُصُولَ فِي صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ يَمْتَنِعُ نَقْلُ الْخِلَافِ فِيهِ، وَإِذًا لَا خِلَافَ فِي الْإِفْطَارِ عَلَى تَقْدِيرِ الْوُصُولِ، إنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا كَانَ الدَّوَاءُ رَطْبًا فَقَالَ: يُفْطِرُ لِلْوُصُولِ عَادَةً، وَقَالَا: لَا لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ فَلَا يُفْطِرُ بِالشَّكِّ، وَهُوَ يَقول: سَبَبُ الْوُصُولِ قَائِمٌ وَتَقْرِيرُهُ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ، وَهُوَ دَلِيلُ الْوُصُولِ فَيَحْكُمُ بِهِ نَظَرًا إلَى الدَّلِيلِ إذْ قَدْ يَخْفَى حَقِيقَةُ الْمُسَبَّبِ بِخِلَافِ الْيَابِسِ، إذْ لَمْ يَثْبُتْ دَلِيلُ الْوُصُولِ فِيهِ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ. وَإِذَا حَقَّقْت هَذَا التَّصْوِيرَ عَلِمْت أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ لَا يُنَافِي مَا ذَكَرَهُ أَكْثَرُ مَشَايِخِ بُخَارَى، كَمَا يُعْطِيهِ ظَاهِرُ عِبَارَةِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ حَيْثُ قَالَ: فَرَّقَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ، وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْوُصُولِ حَتَّى إذَا عَلِمَ أَنَّ الْيَابِسَ وَصَلَ فَسَدَ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الطَّرِيَّ لَمْ يَصِلْ لَمْ يَفْسُدْ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ الرَّطْبَ وَالْيَابِسَ بِنَاءً عَلَى الْعَادَةِ، فَإِنَّهُ لَمَّا بَنَى الْفَسَادَ فِي الرَّطْبِ عَلَى الْوُصُولِ نَظَرًا إلَى دَلِيلِهِ عَلِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ إذَا عَلِمَ عَدَمَ الْوُصُولِ لَا يَفْسُدُ لِتَحَقُّقِ خِلَافِ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ وَلَا امْتِنَاعَ فِيهِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالدَّلِيلِ الْأَمَارَةُ وَهِيَ مَا قَدَّمَ يَجْزِمُ بِتَخَلُّفِ مُتَعَلِّقِهَا مَعَ قِيَامِهَا، كَوُقُوفِ بَغْلَةِ الْقَاضِي عَلَى بَابِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي دَارِهِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ خِلَافَ مُقْتَضَاهُ، فَإِنَّ الظَّنَّ حِينَئِذٍ بِثُبُوتِهِ فَالْقِسْمَانِ اللَّذَانِ ذَكَرُوهُمَا لَا خِلَافَ فِيهِمَا، وَالْحَصْرُ فِيهِمَا مُنْتَفٍ إذْ بَقِيَ مَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ يَقِينًا أَحَدَهُمَا، وَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ فَأَفْسَدَهُ حُكْمًا بِالْوُصُولِ نَظَرًا إلَى دَلِيلِهِ وَنَفَيَاهُ.
قولهُ: (وَلَوْ أَقَطَرَ فِي إحْلِيلِهِ لَمْ يُفْطِرْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُفْطِرُ، وَقول مُحَمَّدٍ مُضْطَرَبٌ فِيهِ) وَالْإِفْطَارُ فِي أَقْبَالِ النِّسَاءِ، قَالُوا أَيْضًا هُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَفْسُدُ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ شَبِيهٌ بِالْحُقْنَةِ قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَهُوَ الْأَصَحُّ.
قولهُ: (فَكَأَنَّهُ وَقَعَ إلَخْ) يُفِيدُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ لَوْ اتَّفَقُوا عَلَى تَشْرِيحِ هَذَا الْعُضْوِ فَإِنَّ قول أَبِي يُوسُفَ بِالْإِفْسَادِ إنَّمَا هُوَ بِنَاءً عَلَى قِيَامِ الْمَنْفَذِ بَيْنَ الْمَثَانَةِ وَالْجَوْفِ، فَيَصِلُ إلَى الْجَوْفِ مَا يَقْطُرُ فِيهَا، وَقولهُ بِعَدَمِهِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِهِ، وَالْبَوْلُ يَتَرَشَّحُ مِنْ الْجَوْفِ إلَى الْمَثَانَةِ فَيَجْتَمِعُ فِيهَا، أَوْ الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ مَنْفَذًا مُسْتَقِيمًا أَوْ شِبْهَ الْحَاءِ فَيُتَصَوَّرُ الْخُرُوجُ وَلَا يُتَصَوَّرُ الدُّخُولُ لِعَدَمِ الدَّافِعِ الْمُوجِبِ لَهُ، بِخِلَافِ الْخُرُوجِ، وَهَذَا اتِّفَاقٌ مِنْهُمْ عَلَى إنَاطَةِ الْفَسَادِ بِالْوُصُولِ إلَى الْجَوْفِ. وَيُفِيدُ أَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ بَعْدُ بَلْ هُوَ فِي قَصَبَةِ الذَّكَرِ لَا يَفْسُدُ، وَبِهِ صَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ. قَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ: وَبَعْضُهُمْ جَعَلَ الْمَثَانَةَ نَفْسَهَا جَوْفًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَحَكَى بَعْضُهُمْ الْخِلَافَ مَا دَامَ فِي قَصَبَةِ الذَّكَرِ وَلَيْسَا بِشَيْءٍ.اهـ. وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ عَلَى قول أَبِي يُوسُفَ بَيْنَ ثُبُوتِ الْفِطْرِ بِاعْتِبَارِ وُصُولِهِ إلَى الْجَوْفِ أَوْ إلَى جَوْفِ الْمَثَانَةِ، بَلْ يَصِحُّ إنَاطَتُهُ بِالثَّانِي بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَصِلُ إذْ ذَاكَ إلَى الْجَوْفِ لَا بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ. وَمَا نُقِلَ عَنْ خِزَانَةِ الْأَكْمَلِ فِيمَا إذَا حَشَا ذَكَرَهُ بِقُطْنَةٍ فَغَيَّبَهَا أَنَّهُ يَفْسُدُ كَاحْتِشَائِهَا مِمَّا يَقْضِي بِبُطْلَانِ حِكَايَةِ الِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ الْفَسَادِ فِي الْإِفْطَارِ مَا دَامَ فِي قَصَبَةِ الذَّكَرِ. وَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ، أَلَا تَرَى إلَى التَّعْلِيلِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَيْفَ هُوَ بِالْوُصُولِ إلَى الْجَوْفِ وَعَدَمِهِ بِنَاءً عَلَى وُجُودِ الْمَنْفَذِ أَوْ اسْتِقَامَتِهِ وَعَدَمِهِ، لَكِنْ هَذَا يَقْتَضِي فِي حَشْوِ الدُّبُرِ وَفَرْجِهَا الدَّاخِلِ عَدَمَ الْفَسَادِ وَلَا مُخَلِّصَ إلَّا بِإِثْبَاتِ أَنَّ الدَّاخِلَ فِيهِمَا تَجْتَذِبُهُ الطَّبِيعَةُ فَلَا يَعُودُ إلَّا مَعَ الْخَارِجِ الْمُعْتَادِ.
وَهُوَ فِي الدُّبُرِ مَعْلُومٌ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِفَتِيلَةِ دَوَاءٍ أَوْ صَابُونَةٍ، غَيْرَ أَنَّا لَا نَعْلَمُ فِي غَيْرِهِ أَنَّ شَأْنَ الطَّبِيعَةِ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَدْخَلٍ كَالْخَشَبَةِ. أَوْ فِيمَا يَتَدَاوَى بِهِ لِقَبُولِ الطَّبِيعَةِ إيَّاهُ فَتَجْتَذِبُهُ لِحَاجَتِهَا إلَيْهِ.
وَفِي الْقُبُلِ ذَكَرْت لَنَا مَنْ تَضَعُ مِثْلَ الْحِمَّصَةِ لِتَسُدَّ بِهَا فِي الدَّاخِلِيِّ تَحَرُّزًا مِنْ الْحَبَلِ أَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى إخْرَاجِهَا حَتَّى تَخْرُجَ هِيَ بَعْدَ أَيَّامٍ مَعَ الْخَارِجِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

متن الهداية:
(وَمَنْ ذَاقَ شَيْئًا بِفَمِهِ لَمْ يُفْطِرْ) لِعَدَمِ الْفِطْرِ صُورَةً وَمَعْنًى (وَيُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ) لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ الصَّوْمِ عَلَى الْفَسَادِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ) قَيَّدَهُ الْحَلْوَانِيُّ بِمَا إذَا كَانَ فِي الْفَرْضِ، أَمَّا فِي النَّفْلِ فَلَا لِأَنَّهُ يُبَاحُ الْفِطْرُ فِيهِ بِعُذْرٍ وَبِلَا عُذْرٍ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَبِي يُوسُفَ أَيْضًا، فَالذَّوْقُ أَوْلَى بِعَدَمِ الْكَرَاهَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِفْطَارٍ بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَصِيرَ إيَّاهُ. وَقِيلَ: لَا بَأْسَ فِي الْفَرْضِ لِلْمَرْأَةِ إذَا كَانَ زَوْجُهَا سَيِّئَ الْخُلُقِ أَنْ تَذُوقَ الْمَرَقَةَ بِلِسَانِهَا.

متن الهداية:
(وَيُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَمْضُغَ لِصَبِيِّهَا الطَّعَامَ إذَا كَانَ لَهَا مِنْهُ بُدٌّ) لِمَا بَيَّنَّا (وَلَا بَأْسَ إذَا لَمْ تَجِدْ مِنْهُ بُدًّا) صِيَانَةً لِلْوَلَدِ. أَلَا تَرَى أَنَّ لَهَا أَنْ تُفْطِرَ إذَا خَافَتْ عَلَى وَلَدِهَا (وَمَضْغُ الْعَلْكِ لَا يُفَطِّرُ الصَّائِمَ) لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى جَوْفِهِ. وَقِيلَ: إذَا لَمْ يَكُنْ مُلْتَئِمًا يَفْسُدُ لِأَنَّهُ يَصِلُ إلَيْهِ بَعْضُ أَجْزَائِهِ. وَقِيلَ: إذَا كَانَ أَسْوَدَ يَفْسُدُ وَإِنْ كَانَ مُلْتَئِمًا لِأَنَّهُ يَفُتْ (إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ) لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ الصَّوْمِ لِلْفَسَادِ، وَلِأَنَّهُ يُتَّهَمُ بِالْإِفْطَارِ وَلَا يُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ إذَا لَمْ تَكُنْ صَائِمَةً لِقِيَامِهِ مَقَامَ السِّوَاكِ فِي حَقِّهِنَّ، وَيُكْرَهُ لِلرِّجَالِ عَلَى مَا قِيلَ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ غِلَّةٍ، وَقِيلَ: لَا يُسْتَحَبُّ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (إذَا كَانَ لَهَا مِنْهُ بُدٌّ) فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَنْ لَمْ تَجِدْ مَنْ يَمْضُغْ لَهُ مِمَّنْ لَيْسَ عَلَيْهِ صَوْمٌ وَلَمْ تَجِدْ طَعَامًا لَا يَحْتَاجُ إلَى مَضْغِهِ لَا يُكْرَهُ لَهَا.
قولهُ: (لِمَا بَيَّنَّا) مِنْ أَنَّهُ تَعْرِيضٌ لِلصَّوْمِ عَلَى الْفَسَادِ إذْ قَدْ يَسْبِقُ شَيْءٌ مِنْهُ إلَى الْحَلْقِ، فَإِنَّ مَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ.
وَفِي الْفَتَاوَى: يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ أَنْ يَذُوقَ بِلِسَانِهِ الْعَسَلَ أَوْ الدُّهْنَ لِيَعْرِفَ الْجَيِّدَ مِنْ الرَّدِيءِ عِنْدَ الشِّرَاءِ.
قولهُ: (وَقِيلَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُلْتَئِمًا) بِأَنْ لَمْ يَمْضُغْهُ أَحَدٌ وَإِنْ كَانَ أَبْيَضَ. وَكَذَا إذَا كَانَ أَسْوَدَ وَإِنْ مَضَغَهُ غَيْرُهُ لِأَنَّهُ يَتَفَتَّتُ وَإِنْ مُضِغَ وَالْأَبْيَضُ يَتَفَتَّتُ قَبْلَ الْمَضْغِ فَيَصِلُ إلَى الْجَوْفِ. وَإِطْلَاقُ مُحَمَّدٍ عَدَمَ الْفَسَادِ مَعَ مَحْمُولٍ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ مُعَلَّلٌ بِعَدَمِ الْوُصُولِ. فَإِذَا فَرَضَ فِي بَعْضِ الْعِلْكِ مَعْرِفَةَ الْوُصُولِ مِنْهُ عَادَةً وَجَبَ الْحُكْمُ فِيهِ بِالْفَسَادِ لِأَنَّهُ كَالْمُتَيَقِّنِ.
قولهُ: (إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ) اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ أَيْ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِلتَّعْرِيضِ عَلَى الْفَسَادِ. وَتُهْمَةِ الْإِفْطَارِ. وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَقِفَنَّ مَوَاقِفَ التُّهَمِ».
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إيَّاكَ وَمَا يَسْبِقُ إلَى الْقُلُوبِ إنْكَارُهُ وَإِنْ كَانَ عِنْدَك اعْتِذَارُهُ.
قولهُ: (لِقِيَامِهِ مَقَامَ السِّوَاكِ فِي حَقِّهِنَّ) فَإِنَّ بِنْيَتَهُنَّ ضَعِيفَةٌ قَدْ لَا تَحْتَمِلُ السِّوَاكَ، فَيَخْشَى عَلَى اللِّثَةِ وَالسِّنِّ مِنْهُ. وَهَذَا قَائِمٌ مَقَامَهُ فَيَفْعَلَنهُ.
قولهُ: (لَا يُسْتَحَبُّ) أَيْ وَلَا يُكْرَهُ فَهُوَ مُبَاحٌ بِخِلَافِ النِّسَاءِ. فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُنَّ؛ لِأَنَّهُ سِوَاكُهُنَّ. وَقولهُ: لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشْبِيهِ مِنْ النِّسَاءِ إنَّمَا يُنَاسِبُ التَّعْلِيلَ الْكَرَاهَةُ، وَلِذَا وُضِعَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَيَكُونُ قَدْ تَرَكَ تَعْلِيلَ الثَّانِي، وَالْأَوْلَى الْكَرَاهَةُ لِلرِّجَالِ إلَّا لِحَاجَةٍ لِأَنَّ الدَّلِيلَ أَعْنِي التَّشْبِيهَ يَقْتَضِيهَا فِي حَقِّهِمْ خَالِيًا عَنْ الْمُعَارِضِ.

متن الهداية:
(وَلَا بَأْسَ بِالْكُحْلِ وَدَهْنِ الشَّارِبِ) لِأَنَّهُ نَوْعُ ارْتِفَاقٍ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الصَّوْمِ، وَقَدْ نَدَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الِاكْتِحَالِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَإِلَى الصَّوْمِ فِيهِ، وَلَا بَأْسَ بِالِاكْتِحَالِ لِلرِّجَالِ إذَا قَصَدَ بِهِ التَّدَاوِي دُونَ الزِّينَةِ، وَيُسْتَحْسَنُ دَهْنُ الشَّارِبِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ الزِّينَةُ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَ الْخِضَابِ، وَلَا يُفْعَلُ لِتَطْوِيلِ اللِّحْيَةِ إذَا كَانَتْ بِقَدْرِ الْمَسْنُونِ وَهُوَ الْقُبْضَةُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَدَهْنُ الشَّارِبِ) بِفَتْحِ الدَّالِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ وَبِضَمِّهَا عَلَى إقَامَةِ اسْمِ الْعَيْنِ مَقَامَ الْمَصْدَرِ، وَفِي الْأَمْثِلَةِ: عَجِبْت مِنْ دُهْنِك لِحْيَتَك بِضَمِّ الدَّالِ وَفَتْحِ التَّاءِ عَلَى هَذِهِ الْإِقَامَةِ.
قولهُ: (نَدَبَ النَّبِيُّ إلَى الِاكْتِحَالِ إلَخْ) أَمَّا نَدْبُهُ إلَى صَوْمِ عَاشُورَاءَ فَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُبْدَى، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّوْمِ أَحَادِيثَ، وَأَمَّا نَدْبُهُ إلَى الْكُحْلِ فِيهِ فَفِي حَدِيثَيْنِ رَوَى أَحَدَهُمَا الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الضَّحَّاكِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: «مَنْ اكْتَحَلَ بِالْإِثْمِدِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ لَمْ يَرَ رَمَدًا أَبَدًا» وَضَعَّفَهُ بِجُوَيْبِرٍ وَالضَّحَّاكُ لَمْ يَلْقَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَمِنْ طَرِيقٍ آخَرَ رَوَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ اكْتَحَلَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ لَمْ تَرْمَدْ عَيْنُهُ تِلْكَ السَّنَةَ» وَقَالَ: فِي رِجَالِهِ مَنْ يُنْسَبُ إلَى التَّغْفِيلِ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي عَاتِكَةَ عَنْ أَنَسٍ قال: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اشْتَكَتْ عَيْنِي أَفَأَكْتَحِلُ وَأَنَا صَائِمٌ؟ قَالَ نَعَمْ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَإِسْنَادُهُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَلَا يَصِحُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ وَأَبُو عَاتِكَةَ مُجْمَعٌ عَلَى ضَعْفِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ بَقِيَّةَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْدِيُّ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالت: «اكْتَحَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ صَائِمٌ» وَظَنَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الزُّبَيْدِيَّ فِي مُسْنَدِ ابْنِ مَاجَهْ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الثِّقَةُ الثَّبْتُ، وَهُوَ وَهْمٌ، وَإِنَّمَا هُوَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الزُّبَيْدِيُّ الْحِمْصِيُّ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي مُسْنَدِ الْبَيْهَقِيّ، وَلَكِنَّ الرَّاوِيَ دَلَّسَهُ، قَالَ فِي التَّنْقِيحِ: لَيْسَ هُوَ بِمَجْهُولٍ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَدِيٍّ وَالْبَيْهَقِيُّ بَلْ هُوَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الزُّبَيْدِيُّ الْحِمْصِيُّ وَهُوَ مَشْهُورٌ، وَلَكِنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَى ضَعْفِهِ. وَابْنُ عَدِيٍّ فِي كِتَابِهِ فَرَّقَ بَيْنَ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ وَهُمَا وَاحِدٌ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّه: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْتَحِلُ وَهُوَ صَائِمٌ» وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد مَوْقُوفًا عَلَى أَنَسٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَاذٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّهُ كَانَ يَكْتَحِلُ، وَهُوَ صَائِمٌ. قَالَ فِي التَّنْقِيحِ: إسْنَادُهُ مُقَارِبٌ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ عُتْبَةُ بْنُ حُمَيْدٍ الضَّبِّيُّ: أَبُو مُعَاذٍ الْبَصْرِيُّ صَالِحُ الْحَدِيثِ، فَهَذِهِ عِدَّةُ طُرُقٍ إنْ لَمْ يُحْتَجَّ بِوَاحِدٍ مِنْهَا فَالْمَجْمُوعُ يَحْتَجُّ بِهِ لِتَعَدُّدِ الطُّرُقِ، وَأَمَّا مَا فِي أَبِي دَاوُد عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ هَوْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ أَمَرَ بِالْإِثْمِدِ عِنْدَ النَّوْمِ، وَقَالَ: لِيَتَّقِهِ الصَّائِمُ» فَقَالَ أَبُو دَاوُد: قَالَ لِي يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: وَمَعْبَدٌ وَابْنُهُ النُّعْمَانُ كَالْمَجْهُولَيْنِ إذْ لَا يُعْرَفُ لَهُمَا غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ. وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ: ابْنُ مَعِينٍ ضَعِيفٌ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: صَدُوقٌ. وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ كَلَامَيْهِمَا إذْ الصِّدْقُ لَا يَنْفِي سَائِرَ وُجُوهِ الضَّعْفِ.
قولهُ: (دُونَ الزِّينَةِ) لِأَنَّهُ مَعْرُوفٌ مِنْ زِينَةِ النِّسَاءِ ثُمَّ قَيَّدَ دُهْنَ الشَّارِبِ بِذَلِكَ أَيْضًا، وَلَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ، وَفِي الْكَافِي: يُسْتَحَبُّ دَهْنُ شَعْرِ الْوَجْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ الزِّينَةُ بِهِ وَرَدَتْ السُّنَّةُ فَقَيَّدَ بِانْتِفَاءِ هَذَا الْقَصْدِ، فَكَأَنَّهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّهُ تَبَرُّجٌ بِالزِّينَةِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُ عَشْرَ خِلَالٍ ذَكَرَ مِنْهَا التَّبَرُّجَ بِالزِّينَةِ لِغَيْرِ مَحَلِّهَا» وَسَنُورِدُهُ بِتَمَامِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ. وَمَا فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ «قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ لِي جَمَّةً أَفَأُرَجِّلُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَأَكْرِمْهَا» فَكَانَ أَبُو قَتَادَةَ رُبَّمَا دَهَنَهَا فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ مِنْ أَجْلِ قول رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ، وَأَكْرِمْهَا» فَإِنَّمَا هُوَ مُبَالَغَةٌ مِنْ أَبِي قَتَادَةَ فِي قَصْدِ الِامْتِثَالِ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا لِحَظِّ النَّفْسِ الطَّالِبَةِ لِلزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِكْرَامَ وَالْجَمَالَ الْمَطْلُوبَ يَتَحَقَّقُ مَعَ دُونِ هَذَا الْمِقْدَارِ، وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَالُ لَهُ عُبَيْدٌ قَالَ: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْهَى عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْإِرْفَاهِ» فَسُئِلَ ابْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ الْإِرْفَاهِ قَالَ: التَّرْجِيلُ، وَالْمُرَادُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ التَّرْجِيلُ الزَّائِدُ الَّذِي يَخْرُجُ إلَى حَدِّ الزِّينَةِ لَا مَا كَانَ لِقَصْدِ دَفْعِ أَذَى الشَّعْرِ وَالشُّعْثِ، هَذَا وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ قَصْدِ الْجَمَالِ، وَقَصْدِ الزِّينَةِ، فَالْقَصْدُ الْأَوَّلُ لِدَفْعِ الشَّيْنِ وَإِقَامَةِ مَا بِهِ الْوَقَارُ وَإِظْهَارُ النِّعْمَةِ شُكْرًا لَا فَخْرًا، وَهُوَ أَثَرُ أَدَبِ النَّفْسِ وَشَهَامَتِهَا، وَالثَّانِي أَثَرُ ضَعْفِهَا، وَقَالُوا: بِالْخِضَابِ وَرَدَتْ السُّنَّةُ، وَلَمْ يَكُنْ لِقَصْدِ الزِّينَةِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ حَصَلَتْ زِينَةٌ فَقَدْ حَصَلَتْ فِي ضِمْنِ قَصْدِهِ مَطْلُوبٌ فَلَا يَضُرُّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُلْتَفِتًا إلَيْهِ قولهُ: (وَهُوَ) أَيْ الْقَدْرُ الْمَسْنُونُ فِي اللِّحْيَةِ (الْقُبْضَةُ) بِضَمِّ الْقَافِ، قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يَجِبُ قَطْعُهُ هَكَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: «أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ اللِّحْيَةِ مِنْ طُولِهَا وَعَرْضِهَا» أَوْرَدَهُ أَبُو عِيسَى يَعْنِي التِّرْمِذِيَّ فِي جَامِعِهِ، رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. فَإِنْ قُلْتَ: يُعَارِضُهُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «أَحْفُوا الشَّوَارِبَ وَأَعْفُوا اللِّحْيَةَ» فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ الْفَاضِلَ عَنْ الْقُبْضَةِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْآثَارِ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ كَانَ يَقْبِضُ عَلَى لِحْيَتِهِ ثُمَّ يَقُصُّ مَا تَحْتَ الْقُبْضَةِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ وَاقِدٍ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ سَالِمٍ الْمُقَنَّعِ قَالَ: رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْبِضُ عَلَى لِحْيَتِهِ فَيَقْطَعُ مَا زَادَ عَلَى الْكَفِّ وَقَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَفْطَرَ قَالَ: ذَهَبَ الظَّمَأُ وَابْتَلَّتْ الْعُرُوقُ وَثَبَتَ الْأَجْرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى» وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا فَقَالَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا حَجَّ أَوْ اعْتَمَرَ قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ فَمَا فَضَلَ أَخَذَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا أَسْنَدَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَيُّوبَ مِنْ وَلَدِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ قَالَ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْبِضُ عَلَى لِحْيَتِهِ فَيَأْخُذُ مَا فَضَلَ عَنْ الْقُبْضَةِ. فَأَقَلُّ مَا فِي الْبَابِ إنْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى النَّسْخِ كَمَا هُوَ أَصْلُنَا فِي عَمَلِ الرَّاوِي عَلَى خِلَافِ مَرْوِيِّهِ مَعَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ الرَّاوِي. وَعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْمَلُ الْإِعْفَاءُ عَلَى إعْفَائِهَا مِنْ أَنْ يَأْخُذَ غَالِبَهَا أَوْ كُلَّهَا، كَمَا هُوَ فِعْلُ مَجُوسِ الْأَعَاجِمِ مِنْ حَلْقِ لِحَاهُمْ كَمَا يُشَاهَدُ فِي الْهُنُودِ وَبَعْضِ أَجْنَاسِ الْفِرِنْجِ، فَيَقَعُ بِذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ، وَيُؤَيِّدُ إرَادَةَ هَذَا مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «جُزُّوا الشَّوَارِبَ وَأَعْفُوا اللِّحَى خَالِفُوا الْمَجُوسَ» فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ. وَأَمَّا الْأَخْذُ مِنْهَا وَهِيَ دُونَ ذَلِكَ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْمَغَارِبَةِ وَمُخَنَّثَةُ الرِّجَالِ فَلَمْ يُبِحْهُ أَحَدٌ.

متن الهداية:
(وَلَا بَأْسَ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ لِلصَّائِمِ) لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ خِلَالِ الصَّائِمِ السِّوَاكُ» مِنْ خَيْرِ فَصْلٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُكْرَهُ بِالْعَشِيِّ لِمَا فِيهِ مِنْ إزَالَةِ الْأَثَرِ الْمَحْمُودِ، وَهُوَ الْخُلُوفُ فَشَابَهُ دَمَ الشَّهِيدِ. قُلْنَا: هُوَ أَثَرُ الْعِبَادَةِ اللَّائِقُ بِهِ الْإِخْفَاءُ. بِخِلَافِ دَمِ الشَّهِيدِ لِأَنَّهُ أَثَرُ الظُّلْمِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّطْبِ الْأَخْضَرِ وَبَيْنَ الْمَبْلُولِ بِالْمَاءِ لِمَا رَوَيْنَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا بَأْسَ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ) يَعْنِي لِلصَّائِمِ سَوَاءً كَانَتْ رُطُوبَتُهُ بِالْمَاءِ أَوْ مِنْ نَفْسِهِ بِكَوْنِهِ أَخْضَرَ بَعْدُ.
قولهُ: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُكْرَهُ) اسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ وَالْمَعْنَى، فَالْحَدِيثُ مَا رَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «إذَا صُمْتُمْ فَاسْتَاكُوا بِالْغَدَاةِ وَلَا تَسْتَاكُوا بِالْعَشِيِّ، فَإِنَّ الصَّائِمَ إذَا يَبِسَتْ شَفَتَاهُ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيِّ مَوْقُوفًا عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَفِي الطَّرِيقَيْنِ كَيْسَانُ أَبُو عُمَرَ الْقَصَّابُ ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: سَأَلْتُ أَبِي عَنْ كَيْسَانَ أَبِي عُمَرَ فَقَالَ: ضَعِيف الْحَدِيثِ، ذَكَرَهُ فِي الْمِيزَانِ وَذَكَرَ حَدِيثَهُ هَذَا فِيهِ. وَالْمَعْنَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَنَّهُ: إزَالَةُ الْخَلُوفِ الْمَحْمُودِ إلَخْ. وَلَنَا قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «مِنْ خَيْرِ خِلَالِ الصَّائِمِ السِّوَاكُ» أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَفِيهِ مُجَالِدٌ ضَعَّفَهُ كَثِيرٌ وَلَيَّنَهُ بَعْضُهُمْ، وَلَنَا أَيْضًا عُمُومُ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عَنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» إذْ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ كُلِّ صَلَاةٍ: الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَالْمَغْرِبُ لِلصَّائِمِ وَالْمُفْطِرِ، وَفِي رِوَايَةِ عِنْدَ النَّسَائِيّ وَصَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَصَحَّحَهَا الْحَاكِمُ، وَعَلَّقَهَا الْبُخَارِيُّ «عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ» فَيَعُمُّ وُضُوءُ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ. وَلَنَا أَيْضًا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «صَلَاةٌ بِسِوَاكٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ سَبْعِينَ صَلَاةً بِغَيْرِ سِوَاكٍ» فَهَذِهِ النَّكِرَةُ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْإِثْبَاتِ تَعُمُّ لِوَصْفِهَا بِصِفَةٍ عَامَّةٍ فَيَصْدُقُ عَلَى عَصْرِ الصَّائِمِ إذَا اسْتَاكَ فِيهِ أَنَّهَا صَلَاةٌ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ، كَمَا يَصْدُقُ عَلَى عَصْرِ الْمُفْطِرِ، فَهَذِهِ خَالِيَةٌ عَنْ الْمُعَارِضِ، فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ لَا يَقُومُ حُجَّةً، أَمَّا الْحَدِيثُ فَإِنَّهُ مَعَ شُذُوذِهِ ضَعِيفٌ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلَا يَسْتَلْزِمُ كَرَاهَةَ الِاسْتِيَاكِ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ السِّوَاكَ يُزِيلُ الْخَلُوفَ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، بَلْ إنَّمَا يُزِيلُ أَثَرُهُ الظَّاهِرُ عَلَى السِّنِّ مِنْ الِاصْفِرَار وَهَذَا لِأَنَّ سَبَبَهُ خُلُوُّ الْمَعِدَةِ مِنْ الطَّعَامِ وَالسِّوَاكِ لَا يُفِيدُ شَغْلُهَا بِطَعَامٍ لِيَرْتَفِعَ السَّبَبُ، وَلِهَذَا رَوَى عَنْ مُعَاذٍ مِثْلَ مَا قُلْنَا. رَوَى الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ هَاشِمٍ الْبَغَوِيّ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ خُنَيْسٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ قَالَ: سَأَلْت مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ: أَتَسَوَّكُ وَأَنَا صَائِمٌ؟ قَالَ نَعَمْ، قُلْت: أَيُّ النَّهَارِ أَتَسَوَّكُ؟ قَالَ: أَيُّ النَّهَارِ شِئْت غَدْوَةً وَعَشِيَّةً، قُلْت: إنَّ النَّاسَ يَكْرَهُونَهُ عَشِيَّةً، وَيَقولونَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ»، فَقَالَ: سُبْحَانُ اللَّهِ لَقَدْ أَمَرَهُمْ بِالسِّوَاكِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ بِفِي الصَّائِمِ خُلُوفٌ وَإِنْ اسْتَاك، وَمَا كَانَ بِاَلَّذِي يَأْمُرُهُمْ أَنْ يُنْتِنُوا أَفْوَاهَهُمْ عَمْدًا مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْخَيْرِ بَلْ فِيهِ شَيْءٌ، لَا مَنْ ابْتَلَى بِبَلَاءٍ لَا يَجِدُ مِنْهُ بُدًّا. قَالَ: وَكَذَا الْغُبَارُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» إنَّمَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ مَنْ اضْطَرَّهُ إلَيْهِ وَلَمْ يَجِدْ عَنْهُ مَحِيصًا. فَأَمَّا مَنْ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْبَلَاءِ عَمْدًا فَمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَجْرِ شَيْءٌ قِيلَ: وَيَدْخُلُ فِي هَذَا أَيْضًا مَنْ تَكَلَّفَ الدَّوَرَانَ تَكْثِيرًا لِلْمَشْيِ إلَى الْمَسَاجِدِ نَظَرًا إلَى قولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «وَكَثْرَةُ الْخُطَا إلَى الْمَسَاجِدِ» وَمَنْ تَصَنَّعَ فِي طُلُوعِ الشَّيْبِ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ» إنَّمَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِمَا مَنْ بُلِيَ بِهِمَا، وَفِي الْمَطْلُوبِ أَيْضًا أَحَادِيثُ مُضَعَّفَةٌ نَذْكُرُ مِنْهَا شَيْئًا لِلِاسْتِشْهَادِ وَالتَّقْوِيَةِ وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ إلَيْهِ فِي الْإِثْبَاتِ: مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْخُوَارِزْمِيَّ قَالَ: سَأَلْت عَاصِمًا الْأَحْوَلَ أَيَسْتَاكُ الصَّائِمُ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ؟ قَالَ: نَعَمْ أَتَرَاهُ أَشَدَّ رُطُوبَةً مِنْ الْمَاءِ؟ قُلْت: أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ؟ قَالَ نَعَمْ، قُلْت: عَمَّنْ رَحِمَك اللَّهُ؟ قَالَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخُوَارِزْمِيَّ. وَقَدْ حَدَّثَ عَنْ عَاصِمٍ بِالْمَنَاكِيرِ لَا يُحْتَجُّ بِهِ. وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ الضُّعَفَاءِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَاكُ آخِرَ النَّهَارِ وَهُوَ صَائِمٌ» وَأَعَلَّهُ بِأَبِي مَيْسَرَةَ قَالَ: لَا يُحْتَجُّ بِهِ وَرَفْعُهُ بَاطِلٌ. وَالصَّحِيحُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قولهِ قُلْنَا كَفَى ثُبُوتُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَعَ تَعَدُّدِ الضَّعِيفِ فِيهِ مَعَ تِلْكَ الْعُمُومَاتِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
فُرُوعٌ:
صَوْمُ سِتَّةٍ مِنْ شَوَّالٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ كَرَاهَتُهُ، وَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ لَمْ يَرَوْا بِهِ بَأْسًا، وَاخْتَلَفُوا فَقِيلَ: الْأَفْضَلُ وَصْلُهَا بِيَوْمِ الْفِطْرِ، وَقِيلَ: بَلْ تَفْرِيقُهَا فِي الشَّهْرِ. وَجْهُ الْجَوَازِ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الْفَصْلُ بِيَوْمِ الْفِطْرِ فَلَمْ يَلْزَمْ التَّشَبُّهُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَجْهُ الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إلَى اعْتِقَادِ لُزُومِهَا مِنْ الْعَوَامّ لِكَثْرَةِ الْمُدَاوَمَةِ، وَلِذَا سَمِعْنَا مَنْ يَقول يَوْمَ الْفِطْرِ: نَحْنُ إلَى الْآنَ لَمْ يَأْتِ عِيدُنَا أَوْ نَحْوَهُ، فَأَمَّا عِنْدَ الْأَمْنِ مِنْ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ لِوُرُودِ الْحَدِيثِ بِهِ، وَيُكْرَهُ صَوْمُ يَوْمِ النَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ لِأَنَّ فِيهِ تَعْظِيمَ أَيَّامٍ نُهِينَا عَنْ تَعْظِيمِهَا، فَإِنْ وَافَقَ يَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَمَنْ صَامَ شَعْبَانَ وَوَصَلَهُ بِرَمَضَانَ فَحَسَنٌ. وَيُسْتَحَبُّ صَوْمُ أَيَّامِ الْبِيضِ الثَّالِثَ عَشَرَ، وَالرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ مَا لَمْ يُظَنَّ إلْحَاقُهُ بِالْوَاجِبِ، وَكَذَا صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَصُومَ قَبْلَهُ يَوْمًا وَبَعْدَهُ يَوْمًا. فَإِنْ أَفْرَدَهُ فَهُوَ مَكْرُوهٌ لِلتَّشَبُّهِ بِالْيَهُودِ، وَصَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ الْحَاجِّ مُسْتَحَبٌّ. وَالْحَاجُّ إنْ كَانَ يُضْعِفُهُ عَنْ الْوُقُوفِ وَالدَّعَوَاتِ فَالْمُسْتَحَبُّ تَرْكُهُ، وَقِيلَ يُكْرَهُ، وَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ لِأَنَّهُ لِإِخْلَالِهِ بِالْأَهَمِّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُسِيءَ خُلُقَهُ فَيُوقِعَهُ فِي مَحْظُورٍ، وَكَذَا صَوْمُ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، لِأَنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ أَدَاءِ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَسَيَأْتِي صَوْمُ الْمُسَافِرِ. وَيُكْرَهُ صَوْمُ الصَّمْتِ وَهُوَ أَنْ يَصُومَ وَلَا يَتَكَلَّمَ يَعْنِي يَلْتَزِمُ عَدَمَ الْكَلَامِ. بَلْ يَتَكَلَّمُ بِخَيْرٍ وَلِحَاجَتِهِ إنْ عَنَّتْ، وَيُكْرَهُ صَوْمُ الْوِصَالِ وَلَوْ يَوْمَيْنِ، وَيُكْرَهُ صَوْمُ الدَّهْرِ لِأَنَّهُ يُضْعِفُهُ أَوْ يَصِيرُ طَبْعًا لَهُ. وَمَبْنَى الْعِبَادَةِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْعَادَةِ، وَلَا يَحِلُّ صَوْمُ يَوْمِ الْعِيدِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ صِيَامُ دَاوُد «صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا» وَلَا بَأْسَ بِصَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مُنْفَرِدًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَلَا تَصُومُ الْمَرْأَةُ التَّطَوُّعَ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا، وَلَهُ أَنْ يُفَطِّرَهَا، وَكَذَا الْمَمْلُوكُ بِالنِّسْبَةِ إلَى السَّيِّدِ إلَّا إذَا كَانَ غَائِبًا، وَلَا ضَرَرَ فِي ذَلِكَ عَلَيْهِ فَإِنَّ ضَرَرَهُ ضَرَرٌ بِالسَّيِّدِ فِي مَالِهِ، وَكُلُّ صَوْمٍ وَجَبَ عَلَى الْمَمْلُوكِ بِسَبَبٍ بَاشَرَهُ كَالْمَنْذُورِ وَصِيَامَاتِ الْكَفَّارَاتِ كَالنَّفْلِ إلَّا كَفَّارَةَ الظِّهَارِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ حَقِّ الزَّوْجَةِ كَمَا سَتَعْلَمُ فِي الظِّهَارِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.